"الأشجار تحتاج إلى جذور، أما الإنسان فله قدمان يسير عليهما"
ينحدر الكاتب أمين معلوف من عائلة لبنانية ويقيم في باريس منذ ما يقرب من ثلاث عقود لذلك يلجأ إليه الفرنسيون عندما يتعلق الأمر بالعلاقة المعقدة بين المشرق والمغرب، حيث يعتبر الكاتب نفسه رحالة بين العالمين. ومع اندلاع الاضطرابات في فرنسا بين شباب المهاجرين وجهاز الشرطة، رأي الكاتب في ذلك اتساعا جديدا للهوة التي تفصل العالمين، وشقاقا يضاف إلى الشقاق القائم، وحمل الحكومة الفرنسية جزءا كبيرا من مسؤولية ما يحدث لإنها لم تفِ بوعودها التي بذلتها للمهاجرين. صدر للكاتب مؤخرا رواية جديدة بعنوان "آثار الأجداد" يتحدث فيها عن علاقته بجذوره.
ويمنحنا موقع الكاتب أمين معلوف على شبكة الانترنت هذه النبذة عن حياته: ولد في بيروت عام 1949، ودرس الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بمدرسة الآداب العليا بالجامعة اليسوعية في بيروت، وامتهن الصحافة بعد تخرجه فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة "النهار" البيروتية. عمل أيضا إلى جانب عمله كمحرر اقتصادي محررا للشئون الدولية بالجريدة، وهو ما أتاح له الإطلاع على الكثير من التطورات السياسية والدبلوماسية في العالم. وفي عام 1976 ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية ترك معلوف لبنان وانتقل إلى فرنسا حيث عمل في مجلة "إيكونوميا" الاقتصادية، واستمر في عمله الصحفي فرأس تحرير مجلة "إفريقيا الشابة" أو"جين أفريك"، وكذلك استمر في العمل مع جريدة "النهار" اللبنانية وفي ربيبتها المسماة "النهار العربي والدولي".
ومنذ الثمانينيات تفرغ للأدب وأصدر حتى الآن سبع روايات. صدرت أولى رواياته "الحروب الصليبية كما رآها العرب" عام 1983 عن دار النشر "لاتيس" التي صارت دار النشر المتخصصة في أعماله. ترجمت أعماله إلى لغات عديدة ونال عدة جوائز أدبية فرنسية منها جائزة الصداقة الفرنسية العربية عام 1986 عن روايته "ليون الإفريقي"، ورشح لجائزة "الجونكور" أكبر الجوائز الأدبية الفرنسية. ومن أهم أعماله "سمرقند" و"القرن الأول بعد بياتريس" و"حدائق النور" و"موانئ المشرق" "وصخرة طانيوس". وصدر للكاتب أخيرا رواية "آثار البطريرك" وحصلت على جائزة البحر المتوسط.
الحنين إلى الماضي
تنطوي رواية معلوف الأخيرة على وصف دقيق لحالة الانفصال المزدوجة التي تدمغ الحياة في المهجر، حيث يشعر من يعيش في الغربة بانفصال عن المكان الذي يعيش فيه في اللحظة الراهنة بحكم اختلاف اللغة والثقافة، كما يشعر وفي الوقت نفسه بانفصال عن المكان الذي نشأ فيه بسبب شساعة المسافة التي تفصله عنه. في رواية "آثار البطريرك" يتتبع الكاتب بكل حرص ودأب آثار عائلته المشتتة في كافة أصقاع الأرض، يحن الكاتب إلى عصر التنوير في نهايات القرن التاسع عشر، ويهتم خاصة بالجد بطرس المفكر والشاعر الذي كان يعمل كناظر مدرسة تجمع الأطفال من كافة الأديان وتقع على جبل لبنان. يبذل الكاتب جهدا كبيرا في تقصي الآثار والشواهد التي كاد الزمان أن يمحوها، حتى يعثر على مبتغاه: رسائل عتيقة ممزقة الأطراف، أو دفاتر مدرسية بالية تحتوي على قصائد بخط الجد.
وقبل أن يتطور الأمر لتصبح الرواية محاولة نوستالجية لاستحضار الماضي الذي ضاع إلى الأبد، نرى الكاتب يأخذ مسافة من قصة عائلته، ويحاول أن يحافظ على استقلاله الذي دفع ثمنه عندما رحل إلى باريس ليبدأ حياة جديدة مع أسرته الصغيرة. يقول معلوف: "في الأدب عائلتي هي موطني، لكن في الواقع لا تلعب عائلتي دورا كبيرا في حياتي. أنا لا أنتمي لأي عائلة. يعجبني كثيرا ما تتصف به عائلتي من تشتت في أصقاع الأرض، انه ملمح يرضيني عاطفيا وثقافيا، لكنني لا أشعر بأنني انتمي إليها. فأنا أفضل البقاء بعيدا عن اجتماعات عائلتي. ما يتبقى لي من عائلتي هو جانبها النثري الذي أرويه، وجزء صغير من تصوري عن الأشياء".
خارج السرب
لعل الجملة التي يفتتح بها معلوف روايته الأخيرة هي أوضح تعبير عن رغبته في عدم التماهي مع عائلته، يكتب معلوف: "الأشجار تحتاج إلى جذور، أما الإنسان فلديه قدمان يسير عليهما". وهذا ما فعله معلوف عندما انتقل إلى باريس بعد اندلاع شرارة الحرب الأهلية اللبنانية. يتابع معلوف في لقاء مع إذاعة دويتشه فيله: "لدي حاجة دائمة في البقاء خارج السرب، وليس في هذا أي راحة بل إنه أمر مؤلم في الواقع، لكنني لا أستطيع تقبل الاندماج في مجتمع يمارس كل يوم حيل عفنة وألاعيب حقيرة. في بعض الأحيان أشعر بالرغبة في التوحد مع المجموع أو الأغلبية، رغبة في أن أصبح في المركز. لكني أعرف أنني لن أستطيع التأقلم مع هذا الشعور. سأبقى غريبا في كل مكان، في أوروبا أنا غريب، وإذا رجعت إلى لبنان سأكون أيضا غريب".
ويتابع معلوف تأملاته: "لقد حاولت أن أفسر الأمور لنفسي بهذه الطريقة: في هذا العالم الذي نحيا فيه نعيش جميعا غرباء، ننتمي فقط إلى أنفسنا كأقليات. وعندما يقرر شخص أن يكون كاتبا فهو يمعن في غربته ووحدته، لذلك فإن الأدب بالنسبة إلى اليوم هو موطني الوحيد".
مشروع الجد
يرى الغرب أن أحلامه في مجيء الوقت الذي سيدرك فيه المسلمون الحاجة إلى الإصلاح والتطوير قد تبخرت، فحتى الآن لم يستطع أحد المشروعات التنويرية العربية، على تعددها، تحقيق أهدافه. يرى معلوف في مشروع جده الذي عاش نهايات القرن التاسع عشر مثالا على ذلك. يقول معلوف: "كان لدى جدي توجهات شبيهة بتوجهات أتاتورك، كان يعتقد أنه ما على المرء سوى أن يحسن القوانين ويدفع الناس دفعة بسيطة حتى يتجهوا إلى الإصلاح والديموقراطية. لكن ذلك لم يحدث. والسبب أننا استهنا بعمق الهوة التي تفصل المشرق عن المغرب. يُضاف إلى ذلك انجذاب قطاع من النخب العربية والإسلامية في مرحلة معينة إلى النموذج السوفيتي، لا لإعجابهم بهذه الأيديولوجية ولكن ليقتصوا من الاستعمار الغربي. واليوم انهار النموذج السوفيتي واختفت معه النخب العربية والإسلامية، وماذا حل محلها؟ الإسلاميون".
أجرت الحوار: بريجيتا نيومان
إعداد: هيثم عبد العظيم