طراز معماري هولندي على نهر هافل
١٧ يونيو ٢٠١٢عندما يتجول المرء في بوتسدام، عاصمة ولاية براندنبورغ،والتي تبعد قرابة أربعة وعشرين كم عن العاصمة الألمانية برلين.سيلفت انتباهه ذلك الحي الهولندي الجميل الذي شُيِّد بين الفترة1734 – 1742. حيث تنتصب المنازل المبنية من الطوب الأحمر في منتصف المدينة، وتزين واجهاتها نوافذ خشبية ذات لون أبيض. هذا الطراز المعماري يعطي نموذجا فريدا للتقاليد المعمارية الهولندية.
مباني الطوب الأحمر تنتصب بجانب بعضها البعض، وتبرز أبراجها التي تغطي نوافذ الطوابق العلوية وكأنها تعانق السماء الغائمة في يونيو. ويعتبر الحي الهولندي الذي يتوسط أحياء المدينة ذات المهارة المعمارية البروسية الرائعة بمثابة جزيرة هولندية ذات طابع معماري بسيط، ولكنه يعطي رونقاً جميلاً وفريداً للمدينة. يتجول السياح في أزقة الحي ويُعبّرون عن إعجابهم بأجوائه الجميلة من خلال التقاط الصور التي تستعيد ذكرياتهم في هذه المدينة التي زاروها يوماً ما. ولكن عندما يبدأ المطر بالهطول تراهم يركضون إلى مقاهي الحي المبنية على غرار المقاهي الهولندي أيضاً، والشهيرة بالقهوة وقطع الحلوى والمعجنات والفطائر الصغيرة.
لا يزعج المطر هانس غوبيل الذي يتجول في الحي، حيث يتوقف بين الحين والآخر، يتحدث إلى أصحاب المعارض الفنية وأصحاب المحال التجارية. وهو كرئيس لـ "جمعية رعاية الثقافة الهولندية في بوتسدام" يعرف الحي الهولندي كما يعرف نفسه، وهو على بيّنة من تفرد هذا الحي الذي لا مثيل له حتى داخل الدولة الهولندية. ويذكر غوبيل خلال حديثه: "لقد شيَّد هذا الحي البروسيون بدقة ألمانية بحتة." ويضيف: "حتى في هولندا لا توجد منطقة سكنية تماثل هذا الحي بأسلوب البناء الذي ينتمي إلى تلك الحقبة."
مشهد هولندي بأجواء عالمية
في منتصف القرن الثامن عشر كلّف الملك البروسي فريدريش فيلهلم الأول المعماري يان بومان أن يبدأ بتجفيف منطقة المستنقعات وتشييد منطقة سكنية على الطراز الهولندي. ومن خلال هذا الفعل جذب أصحاب الحِرَف الهولندية إلى ألمانيا، والذين كانوا يعتبرون من أفضل الحرفيين الأوروبيين على الإطلاق آنذاك. وعلى الرغم من أنهم تلقوا وعودا بأن المنازل سوف تقدم لهم كهدية بعد انتهاء بنائها، لكن هذه الإغراءات لم تأت بنتيجة كبيرة، ولم يتم استقطاب الكثير من خبراء البناء وأصحاب الحرف الهولندية، وفضلا عن ذلك سكن الحي تجار وفنانون وجنود بروسيون وفرنسيون.
حتى في يومنا هذا ما زالت الأجواء العالمية تسود الحي. في بعض المنازل القديمة هناك مطاعم تقدم الأطباق الإيطالية، والأجبان الفرنسية المتنوعة، عدا عن ورش الحرف اليدوية الألمانية. فقط الحانات تقدم أنواع البيرة الهولندية المختلفة. ويقول صاحب إحدى هذه الحانات: "الناس يحبون شرب هذه البيرة"، ويضيف مبتسماً، "ليس السياح فقط وإنما السكان المحليين أيضا."
روعة الحي بعد الوحدة الألمانية
يعيش في الحي الهولندي قرابة ألف شخص، وهانس غوبيل الذي جاء إليه قبل ربع قرن مسحوراً بأجوائه الجميلة، هو أحد هؤلاء، حيث يقول: "إن الرونق الذي يتمتع به الحي جذبني إليه." لقد جاء غوبيل، المولود في مدينة لايبتسيغ مع عائلته في منتصف ثمانينات القرن الماضي إلى بوتسدام واتخذ أحد المنازل في شارع "ميتيل شتراسه" مسكنا له، ومن ثم رممه بجهده الخاص. وكان بذلك من أوائل الذين بدأوا في ترميم منازل الحي الهولندي.
قبل الوحدة الألمانية كانت أغلب منازل الحي تعاني من الإهمال، وكانت شبه مهجورة، حتى أنه كان هناك مخطط لهدم المنازل القديمة. ولكن بعض الناشطين وقفوا بوجه هذا المخطط وأفشلوه. وبعد الوحدة تم ترميم معظم المنازل بالحي - وفقا لشروط ومعطيات معمارية صارمة، حيث لم يسمح بتغيير مظهر المباني من الخارج. لأن الحي وضع تحت حماية الآثار ورقابتها.
تحدٍّ آخر جذبَ هانز غوبيل مدير دائرة الإنشاءات إلى الحي، حيث كان يعمل في النهار في جامعة بوتسدام التي كانت تسمى جامعة علوم التربية آنذاك. وفي هذا السياق يحدثنا: "بعد انتهاء العمل في الجامعة كنت أتوجه إلى ترميم المبنى الخاص. اليوم تتلألأ منازل الحي الهولندي. وأعادت مجدها كما كانت في السابق".
متاحف واحتفالات عديدة
ما زال منزل يان بومان في مركز الحي يترك انطباعاً حقيقياً عند الزوار عن الحياة التي كانت في القرن الثامن عشر. فقد تحوَّل هذا البيت إلى متحف للثقافة الهولندية. وإلى جانب وجود معرض دائم لتاريخ الحي، هناك أثاث وأدوات منزلية تنتمي إلى زمن تأسيس الحي موزعة على الغرف الواسعة. ويوجد (شامينيه) موقد كبير مفتوح ونول للغزل وموقد الفحم الذي كان يستخدم لطهي الطعام.
بالنسبة للسياح يبقى الحي الهولندي محبباً دوماً ويحظى بشعبية كبيرة. كما أنه يستقطب كل عام خلال الاحتفالات الثقافية أكثر من عشرة آلاف سائح. وفي هذا السياق يقول غوبيل وعيناه تشعان فرحاً: "خلال هذه الأيام يتحول الحي إلى مهرجان كبير، فتعزف الفرق الموسيقى الهولندية التقليدية، وتعرض أنواع كثيرة من الزهور وتتوفر أجبان هولندية بمختلف الأنواع." وبهذا يكون قد تحقق بعد مائتا سنة ما حلم به مؤسس الحي. وبدعوة النادي الثقافي تتوافد الحافلات من هولندا، ويتحول الحي لفترة قصيرة إلى حي للهولنديين فقط.
تيريزا توبَّر / فؤاد آل عواد
مراجعة: يوسف بوفيجلين