الاستثمارات العربية والتراجع التاريخي للاقتصاد الألماني
٢ أغسطس ٢٠٢٠بقي الاقتصاد الألماني منذ سبعينات القرن الماضي وحتى اندلاع جائحة كورونا من الاقتصاديات المحصنة نسبياً في وجه معظم الأزمات التي كانت تبعاتها تصيب بلدان معينة بقوة دون أخرى، الأمر الذي أبقى الماكينة الصناعية الألمانية المتنوعة والعالية الجودة تعمل وتصدر منتجاتها بشكل أوسع إلى الأسواق الأقل تأثراً.
غير أن تبعات جائحة كورونا تختلف عن سابقاتها كونها لا تستثني أحداً من شرورها التي أدت إلى تراجع الإنتاج وشل حركة الشحن والتصدير ليس بسبب القيود والإغلاق وحسب، بل وبسبب المزاج والآفاق السيئة للمستقبل المنظور أيضاً. وهو الأمر الذي انعكس سلبياً وبشكل واضح على أداء الاقتصاد الألماني الذي تراجع ناتجه المحلي في الربع الثاني من العام الجاري إلى أكثر من 10 بالمائة مقارنة بالربع الذي سبقه للمرة الأولى في تاريخه المعاصر.
وتكمن أبرز مشاكل هذا الاقتصاد الذي يعتمد على التصدير أكثر من أي اقتصاد أوروبي آخر، تكمن في التراجع والجمود والمخاوف التي تشهدها أسواقه الخارجية الأساسية وفي مقدمتها الأسواق الأمريكية والصينية وقبلها الفرنسية والإيطالية والإسبانية. ولولا هذا التراجع لما تراجعت الصادرات الصناعية الألمانية بنسب تراوحت بين 25 وأكثر من 30 بالمائة خلال الأشهر الثلاثة الماضية. ويبدو قطاع السيارات الحيوي الأكثر تأثراً بالأزمة بعد قطاعي السفر والطيران.
تراجع لا يستدعي التهويل
يبدو تراجع الاقتصاد الألماني صادماً للكثيرين، غير أن التمعن في تفاصيله تشير إلى الأمر لا يستحق الكثير من التهويل والمفاجأة، لأن صناعات ألمانية كثيرة كانت تعاني قبل جائحة كورونا من مشاكل متزايدة في نوعية منتجاتها وصادراتها وفي مقدمتها قطاع السيارات وتوابعها.
ويعود السبب في ذلك فضائحها التقنية الكثيرة وإلى تأخرها عن اللحاق بركب السيارات الكهربائية والأكثر رفقاً بالبيئة. في سياق متصل تشير المعطيات إلى أن سوق العمل الألماني حافظ على استقرار نسبي رغم التراجع ولو أن ذلك حصل بفضل دعم مالي سخي من الحكومة. ويدل على ذلك أن معدل البطالة ما يزال بحدود 6.4 بالمائة في سوق يعمل فيها بشكل رسمي أكثر من 45 مليون شخص.
ويأتي هذا الاستقرار على ضوء تحسن الطلب الداخلي على السلع الاستهلاكية والخدمات ومستلزمات البناء أيضاً بفضل دعم حكومة المستشارة أنغيلا ميركل التي خصصت 130 مليار يورو لتحفيز الاقتصاد والطلب الداخلي من خلال تعزيز القوة الشرائية للمواطنين عن طريق الإعانات الاجتماعية وتعويضات البطالة والعمل الجزئي.
الانتعاش يتطلب إعادة هيكلة
ويقدر المعهد الاقتصادي الألماني "دي اي في" أن مؤشرات الانتعاش واضحة اعتباراً من أوائل شهر يوليو/ تموز الماضي بعد تخفيف الإغلاق وتخفيض ضريبة القيمة المضافة. ومن المرجح أن المفاجأة الجديدة ستكون في انتعاش قوي خلال ما تبقى من السنة الجارية في حال بقي عدد المصابين بفيروس كورونا تحت السيطرة.
بيد أن هذا الانتعاش الذي سيقوم على زيادة الطلب الداخلي، لن يعوض بشكل كامل تراجع الصادرات الألمانية إلى الأسواق الخارجية، ومن اسباب ذلك أن أولويات هذه الأسواق في زمن كورونا وما يليه في المدى المتوسط لن تكون لشراء سيارات جديدة أو ضخ استثمارات لشراء معدات ألمانية عالية التكلفة.
ومن هنا فإن أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد الألماني تكمن في إعادة هيكلة الكثير من الصناعات والخدمات التي نامت على مشاكلها منذ سنوات. ولن تنجح هذه الهيكلة بالطبع في حال استغلال مساعدات ودعم الدولة للمزيد من النوم على هذه المشاكل التي أدت إلى تأخر ألمانيا عن اللحاق بتطوير قطاعات عديدة في مقدمتها تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي والطاقات المتجددة والسيارات الصديقة للبيئة وغيرها من القطاعات.
الخسائر لا تستثني الاستثمارات العربية
يسأل الكثيرون على ضوء تراجع أكبر اقتصاد أوروبي عن مصير الاستثمارات العربية في ألمانيا وفرص العمل للمقيمين فيها من العرب ومن أصول عربية. وتتركز هذه الاستثمارات التي تقدر قيمتها بأكثر من 80 مليار دولار في أسهم شركات مؤشر داكس وفي مقدمتها فولكسفاغن ودايملر- مرسيدس ودويتشه بنك. ومن الواضح أن هذه الاستثمارات التي تملكها صناديق سيادية بالدرجة الأولى مُنيت بخسائر إضافية بعد اندلاع جائحة كورونا.
ففي قطاع السيارات أعلنت فولكسفاغن على سبيل المثال عن خسائر بنحو 1.4 مليار يورو في النصف الأول من العام الجاري. وتراجعت أسهم شركة دايملر بنحو 10 بالمائة خلال نفس الفترة. وتستثمر قطر في فولكسفاغن 20 مليار دولار، في حين تستثمر الكويت في دايملر ما يزيد عن 32 مليار دولار في شركة دايملر، وهي الشركة الأم لمرسيدس.
أما الاستثمارت الأخرى في شركات مثل "هوختيف" للبناء فقد بقي تأثرها محدوداً حتى الآن. غير أن حجم الخسائر الفعلية يبقى معلقاً طالماً احتفظ المستثمرون العرب بأسهمهم التي لم تخسر جميعها كتلك االمستثمرة في شركة "اس آي بي" لتقنية المعلومات. وقد يتحول الاتجاه خلال العامين القادمين إلى الربح في حال تمكنت صناعة السيارات الألمانية من إعادة توجيه البوصلة واللحاق بركب التطور الذي شهدته صناعات آسيوية وأمريكية مشابهة في مجال إنتاج السيارات الصديقة للبيئة والمجهزة بأحدث وسائل تقنيات المعلومات.
فرص تأهيل لما بعد كورونا
وفيما يتعلق بفرص العمل يعني تراجع الاقتصاد الألماني استمرار توقف عمل عشرات الآلاف من المهاجرين واللاجئين حالهم حال الألمان بشكل كلي أو جزئي. لكن هذا التراجع لا يعني بالضرورة توقف الحاجة إلى الكفاءات الشابة المهاجرة من العمال المهرة في قطاعات عديدة ابرزها تقنية المعلومات والخدمات الطبية والصحية. وعلى هذا الأساس أكدت الحكومة الألمانية قبل أيام وعلى لسان مفوضتها لشؤون الهجرة أنيته فيدمان- ماوتس عزمها على تطبيق المراحل المتبقية من خطة العمل الوطنية للاندماج من خلال توسيع عروض التأهيل عبر الإنترنت أو التأهيل الرقمي وتسريع عملية الاعتراف بالشهادات الأجنبية ودعم التأهيل المدرسي بمزيد من الأموال والبرامج.
وتقضي هذا الخطة التي أقرتها الحكومة في فبراير/ شباط الماضي بتعزيز فرص الاندماج في سوق العمل ومكافحة التطرف اليميني بهدف تعزيز وحدة المجتمع الألماني. في هذا السياق أكدت وزارة العمل الألمانية على لسان وكيلها بورن بونينج أن سوق العمل الألمانية ما تزال جيدة رعم كورونا وأن الاقتصاد دخل "مرحلة التعافي البسيط".
وعلى ضوء ذلك "ينبغي على الشركات توفير الأسس اللازمة لعودة عجلة الاقتصاد والقيام بالتدريب المهني حيث يكون ذلك ممكناً". وفي الحقيقة تشكل المرحلة الحالية المتمثلة في توقف العمل بشكل جزئي أو كلي فرصة للكثيرين من أجل إكمال تأهيلهم اللغوي والوظيفي والاستعداد لدخول سوق العمل بشكل أفضل مع عودة الحياة إلى طبيعتها في عضون أقل من سنة أذا أخذنا بعين الاعتبار أن العام القادم سيشهد إيجاد لقاح أو دواء ضد هذا الفيروس المدمر كورونا.
ابراهيم محمد