تراجع النمو الألماني وفرص العمل والتجارة مع العالم العربي
٢٥ أغسطس ٢٠١٩بعد طفرة نمو استمرت نحو عشر سنوات تراجع الناتج المحلي الألماني الأقوى أوروبيا والرابع عالميا بنسبة 0.1 بالمائة في الربع الثاني من العام الجاري مقارنة بالربع الذي سبقه. وجاء هذا التراجع بسبب تصاعد حرب الرسوم التجارية التي يخوضها الرئيس ترامب ضد الصين والاتحاد الأوروبي وعدم الاتفاق على خروج بريطانيا من الاتحاد بشكل منظم. ردود الأفعال الألمانية والأوروبية على هذا التراجع الطفيف بدت أوسع وأكبر من حجمها الفعلي رغم المخاطر من انتقال التراجع إلى مرحلة ركود مع احتدام هذه الحرب. وحتى في العالم العربي اتخذ محللون كثر التراجع نقطة انطلاق لتخويف واسع النقاط من تبعاته السلبية على العلاقات الاقتصادية القوية بين ألمانيا وعدد كبير من الدول العربية وعلى سوق العمل الألمانية الباحثة عن عشرات آلاف الكفاءات الأجنبية المتوسطة من مختلف المهن. وهو ما يراه الكثير من الشباب واللاجئين العرب فرصة لهم للعمل في هذه السوق.
حوالي 1.5 مليون وظيفة شاغرة
السؤال الذي يطرح نفسه، هل هذه المخاوف في محلها؟ بالنسبة لسوق العمل ما تزال ألمانيا تتمتع بنسبة بطالة لا تتجاوز 5 بالمائة، وهي واحدة من أدنى النسب في القارة الأوروبية والعالم. وتفيد معطيات سوق العمل الألماني بأن هناك حاجة لنحو 1.5 مليون موظف وعامل لوظائف شاغرة في جميع المجالات وفي مقدمتها الخدمات الطبية والصحية وتقنية المعلومات وخدمات التجارة والانترنت والحرف والصناعات التحويلية. وتكمن هذه الفرص بشكل أساسي في الشركات الصغيرة والمتوسطة التي يعمل فيها أكثر من ثلاثة أرباع العاملين في ألمانيا. وهو الأمر الذي يفسر إصدار الحكومة الألمانية قانون جديد يسهّل هجرة الكفاءات المتوسطة والعمال المهرة من خارج أوروبا إلى ألمانيا بشكل غير مسبوق منذ عقود. ومما يعنيه ذلك تقديم المزيد من الدعم الحكومي للتأهيل المهني للاجئين العرب وغير العرب في ألمانيا والإسراع في منح تأشيرات الدخول للكفاءات الاجنبية التي تجد فرص عمل في الشركات والمؤسسات الألمانية.
الاستثمارات العربية في ألمانيا مستقرة
هذا بشأن سوق العمل، لكن ماذا بشأن تبعات التراجع المحتملة على اقتصاديات الدول العربية، لاسيما التي تربطها علاقات قوية بألمانيا؟ بداية لا بد من القول أنه من المبكر الحديث عن انكماش أو ركود طويل الأمد، لأن الحكومة الألمانية لديها أكثر من وسيلة لمنعه. لكن في حال حصول انكماش لفترات أطول، فإن الاستثمارات العربية التي تقدر قيمتها بنحو 100 مليار يورو حسب معطيات غرفة التجارة العربية الألمانية ستخسر كون غالبيتها في أسهم شركات صناعية ومالية كبيرة مثل مرسيدس التي تستثمر فيها الكويت وفولكسفاغن ودويتشه بنك التي تستثمر فيهما قطر. غير أن الأمر لن يصل إلى حد تغيير وجهة هذه الاستثمارات، لأنها في غالبيتها طويلة الأمد كما هو الاستثمارات الكويتية المقدرة بنحو 30 مليار يورو والتي يعود القسم الأكبر منها إلى سبعينات القرن الماضي. ولا ننسى أن الاستثمارات العربية في ألمانيا استثمارات حكومية لا تبحث عن الربح فقط، بل أيضا عن تعزيز العلاقات السياسية والأمنية كما هو عليه الحال بالنسبة للاستثمارات القطرية.
مخاطر طفيفة تواجه التجارة العربية الألمانية
أما بالنسبة للتبادل التجاري العربي الألماني الذي وصل حجمه إلى نحو 50 مليار يورو سنويا فإنه يتم بشكل رئيسي مع دول كالإمارات والسعودية والجزائر ومصر وتونس والمغرب. وهنا تركز المستوردات الألمانية بالنسبة لدول كالمغرب وتونس وإلى حد ما مصر على سلع ضرورية كالمواد الغذائية والألبسة والأنسجة. مثل هذه السلع لا تتأثر بشكل ملموس بتراجع طفيف على غرار السلع الكمالية التي يزيد الميل للاستغناء عنها في زمن المخاوف. وفي سوق، كالسوق الألمانية ذور القدرة الشرائية العالية ليس من المتوقع تراجع الطلب على السلع الضرورية رغم انكماش محتمل. وحتى الآن لا يبدو الوضع مختلفا بالنسبة للطلب الألماني والأوروبي على قطع تبديل ومكونات السيارات والأجهزة الإلكترونية الحديثة العهد في تونس والمغرب ومصر بسبب تدني تكاليف إنتاجها وقدرتها التنافسية العالية وتنوع أسواقها. كما أن الطلب على قطع التبديل هذه في زمن الأزمات قد يزداد بسبب الميل تصليح السيارات والأجهزة بدلا من شراء الجديد منها. الجدير ذكره أنه يوجد في تونس لوحدها على سبيل المثال نحو 30 شركة ألمانية، وتونسية - ألمانية مشتركة متخصصة في تصنيع معدات السيارات من مختلف الأصناف وتشغّل ما لا يقل عن 30 ألف عامل وموظف. وهناك شركات ألمانية رائدة في صناعات تحويلية تتمتع بأسواق مستقرة في أفريقيا والشرق الأوسط مثل "ليوني تونس" لصناعة الكابلات. ففي هذه الشركة يعمل 16 ألف تونسي وتصدر منتجاتها إلى ألمانيا وعشرات الدول الأخرى.
أما بالنسبة للواردات الألمانية من مصادر الطاقة العربية، أي النفط والغاز فهي ضعيفة بالمجمل، باستثناء الجزائر التي تلعب دورا هاما في سوق الطاقة الأوروبي، مقارنة بالسعودية والإمارات على سبيل المثال. فقيمة المستوردات الألمانية النفطية من هذه الدول لايصل إلى 3 مليارات يورو. ومن هنا فإن تراجع طلب السوق الألماني على هذه المصادر في حالة الركود الاقتصادي سيكون له أثر محدود مقارنة مع تراجع الطلب الصيني أو الياباني أو الكوري الجنوبي الذي يعتمد بشكل أساسي على نفط الخليج في توفير مصادر طاقته.
مطالبة حكومة ميركل باجراءات سريعة
مع ازدياد المخاوف من ركود يهدد الاقتصاد الألماني ترتفع الأصوات التي تطالب الحكومة الألمانية بتفعيل أدواتها المالية والاستثمارية لمنعه. وبغض النظر عما إذا كانت بعض هذه الدعوات من باب الدعاية السياسية الانتخابية، فإن غالبية الخبراء على أختلاف مشاربهم يحثون حكومة المستشارة ميركل على التحرك بسرعة من خلال زيادة الاستثمارات الحكومية في البنية التحتية والبحث العلمي وتخفيض الضرائب التي تنهك فئات الدخل المحدود بهدف الحفاظ على الوظائف وتعزيز الطلب في السوق الألمانية. وتشير آخر معطيات هذه السوق إلى أن زيادة القوة الشرائية للمستهلكين في هذه السوق تشكل أفضل ضمانة في مواجهة الصراعات التجارية والأزمات السياسية. ويساعد الحكومة على التحرك موازنة حكومية لا تعاني من العجز بفضل تدفق الضرائب عليها بشكل متزايد خلال السنوات التسع الماضية التي شهد فيها الاقتصاد الألماني واحدة من أفضل معدلات النمو في أوروبا والبلدان الصناعية متحديا بذلك تبعات الأزمة المالية العالمية.
ابراهيم محمد