تركيا العلمانية.. في مواجهة سطوة الأردوغانية!
٢ مارس ٢٠١٨حظر التلفزيون التركي 202 أغنية من البث لأسباب "أخلاقية وسياسية" خلال عام 2017، منها أغانٍ تعود لمغنين مشهورين في البلد. مؤسسة TRT (مؤسسة التلفزيون والراديو التركية العمومية) التي كشفت مؤخراً عن لائحة الأغاني الممنوعة من البث في القنوات التلفزيونية والإذاعة التابعة لها، برّرت القرار بوجود محتوىً غير لائق، وتضمن الأغاني لكلمات ومشاهد اعتبرتها القناة تمسّ الأخلاقيات العامة، فضلاً عن مبرّرات سياسية لأغانٍ شعبية كردية، هي الأخرى طالها مقص الرقيب.
وإن كانت سياسة حظر محتوى من البث في التلفزيون العمومي الذي تشرف عليه الحكومة ليست جديدة، فإنها المرّة الأولى منذ عقود يصل فيها الحظر إلى هذا الكم من الأغاني في عام واحد، علماً أن المتتبعين لمضمون أغاني الفيديو كليب التركية، لا يرون انزياحاً كبيراً في مشاهدها خلال عام 2017 لاتخاذ قرار من هذا الحجم.
ويفتح هذا الحظر النقاش حول التغيير الذي بدأ يطرأ على صورة تركيا، إذ كان هذا البلد يوصف بكونه ليبراليا منفتحا، لا سيما أن تركيا تعدّ من البلدان القليلة المحسوبة على العالم الإسلامي، التي ينصّ دستورها بشكل صريح على العلمانية. تبنت تركيا هذا الخيار منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، عندما ألغى دولة الخلافة العثمانية، وأقام دولة حديثة سنواتٍ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن المؤشرات الأخيرة تبيّن أن الحكومة التركية الحالية مصرّة على تغيير صورة البلد، وتقدم لذلك عدة مبرّرات.
أسلمة للمجتمع؟
قبل إخراج لائحة الأغاني "غير اللائقة" ببضعة أسابيع، صرّح رجب طيب أردوغان، أن الوقت جد مناسب لمناقشة قضية الخيانة الزوجية لأجل تجريمها من جديد، مؤكدا أن حزبه، أي العدالة والتنمية، سبق له عام 2004 أن اقترح تجريم هذا النوع من العلاقات الجنسية، لكنه تراجع عن المقترح إثر ضغوط من الاتحاد الأوروبي.
ويعود إلغاء تجريم الخيانة الزوجية بشكل كامل في تركيا إلى نهاية تسعينيات القرن الماضي، وإذا ما نجح أردوغان في تجريم الخيانة الزوجية من جديد، فستكون تركيا البلد الوحيد في أوروبا الذي تجرّم قوانينه هذا الأمر.
الطريقة المحافظة التي ينهجها أردوغان ظهرت كذلك عندما طلب صعود طفلة، لا يتجاوز عمرها 6 سنة، ترتدي لباساً عسكرياً، كي تقف معه في المنصة عندما كان يلقي كلمة خلال تجمع لحزب العدالة والتنمية. الرئيس قال بحق الطفلة التي كانت تبكي وهي تتقدم إليه، إن العلم التركي سيلّفها إن استشهدت يوماً في المعارك، في إشارة منه إلى ما يخوضه الجيش التركي من قتال ضد المسلّحين الأكراد.
وقبل عامين تقريباً، صرّح إسماعيل كهرمان، رئيس البرلمان التركي، أن تركيا بلد مسلم، وبالتالي، فيجب أن يكون لها دستوراً دينياً. وقد خلق هذا التصريح انتقادات كبيرة، دفعت بأحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء السابق، إلى التوضيح بكون مبدأ العلمانية لن يتم المساس به في مشروع الدستور القادم للبلاد، لكن هناك من اعتبر تصريحات كهرمان جرّد تكتيك لاختبار ردة فعل المجتمع.
كما سبق لمجلس شورى التعليم أن صادق عام 2014 على إلزامية دروس التربية الدينية حتى الصف الثالث الابتدائي وإدراج اللغة التركية العثمانية في المناهج الدراسية كمادة إلزامية، فيما جرى إلغاء درس حقوق الإنسان وإدراج محتواه مع درس العلوم الاجتماعية.
وقد صرّح أردوغان سابقاً أنه يرغب بتشكيل جيل متدين في البلاد يؤمن بالثقافة العثمانية ويتغلب على الأفكار الغربية. ومن سياسات أردوغان في هذا الاتجاه تقوية مدارس الإمام الخطيب، التي سبق أن درس فيها بدوره، ويتعلق الأمر بمدارس إسلامية للتعليم الثانوي، استفادت خلال السنوات الماضية من دعم حكومي واسع، ومن المقرّر أن ترتفع الميزانية المخصصة لها لاحقاً.
كما رفعت تركيا حظر الحجاب في مؤسسات الدولة بشكل كامل عام 2013، وهو إجراء، وإن كان يخدم تصوّر أردوغان، فهو يأتي نتيجة ضغط الكثير من الفعاليات النسائية داخل البلد وخارجه، خاصة وأن بلدانا أوروبية كثيرة لا تمنع النساء من العمل أو الدراسة وهن يرتدين الحجاب. كما منعت الحكومة بيع الكحول قرب المساجد والمدارس منذ العام ذاته، ومنعت كذلك مرور أيّ إعلانات أو ملصقات تروّج للكحول.
جدل الدين والانفتاح
سبق لمختص في الشأن التركي، بجامعة ستراسبوغ الفرنسية، صميم أكغونول أن صرّح لمجلة "لاكروا" الفرنسية، أن الدولة التركية استخدمت تصوّر العلمانية لأجل مراقبة الدين وعلمنة المجتمع، لكن حزب العدالة والتنمية يخطط للعكس، أي إدخال الإسلام السني في الدستور لأجل أسلمة المجتمع، فق قول الباحث.
كما علق سابقا حسن حقاني، وهو سفير باكستاني سابق في واشنطن، في مقال على موقع "بلومبرغ" أن أردوغان يتبع النموذج الذي شهدته باكستان في الفترة ما بين 1978 و1988، في فترة الجنرال ضياء الحق، أي دمج الشعور الوطني مع الدين". غير أن الحرب التي كان الجنرال الباكستاني قد أطلقها ضد العلمانيين في بلده لا تظهر متطابقة مع ما يحدث في تركيا، بما أن أردوغان لم يعطِ مؤشرات على إقصاء العلمانيين بشكل تام، حتى وهو يطمح لخلق جيل متدين وفق قوله.
وتبقى التجربة العلمانية التركية مثيرة للدراسة، فالبلد محافظ على طابعه الإسلامي في الكثير من جوانب الحياة، لكن فئات كثيرة من المجتمع في الوقت ذاته منفتحة بشكل يقترب من الطابع الأوروبي. كما أن القانون لا يمارس الرقابة على الحياة الخاصة للأفراد، ويساوي بين المرأة والرجل في الحقوق وفي جلّ القطاعات، فضلاً عن أن حياة الترفيه تشبه كثيراً ما يوجد في أوروبا. ويعرف المجتمع التركي تعايشاً بين المرجعيات الدينية والأخرى الليبرالية، ممّا يجعل أيّ تغيير في البنية المجتمعية لتركيا، أمراً بالغ الصعوبة.
إسماعيل عزام