الأزمة الاقتصادية في تونس
١٢ يونيو ٢٠١٣تتكرَّر القصة نفسها في كلِّ أربعة أسابيع: فمع اقتراب الشهر من منتصفه لا يبقى شيء تقريبًا من راتب المهندس الكهربائي قيس. يقول قيس معتذرًا: "أنا لا أعيش حياة مترفة، وقلّما أذهب إلى المطاعم، ولا ألتقي بأصدقائي إلاَّ مرة واحدة فقط في الأسبوع لتناول كأس من الجعة".
وقيس لا ينفق ماله إلا على أشياء ضرورية للحياة اليومية: على المواد الغذائية وإيجار بيته والكهرباء. قيس شاب في التاسعة والعشرين من عمره. لقد درس في ألمانيا كما أنَّه من الشباب التونسيين المؤهلين تأهيلاً عاليًا والذين كافحوا قبل عامين بحماس وأمل كبيرين من أجل تونس جديدة.
ويقول هذا الشاب الرشيق: "عدت إلى وطني في شهر كانون الثاني/يناير 2011، وذلك لأنَّني كنت أعتقد أنَّ الأمور سوف تتحسَّن الآن". لقد أنهى دوامه قبل قليل، وها هو يجلس في مقهى صغير يقع في شارع ليبرتي في تونس العاصمة، مباشرة مقابل مسجد الفتح.
يحصل قيس على 650 دينارًا في الشهر، أي نحو 325 يورو، وهذا يجعله في القسم العلوي من الطبقة الوسطى في تونس.
وبراتبه هذا يدعم عائلته أيضًا، كما أنَّه لا يزال يعيش في بيت عائلته. وعن ذلك يقول موضحًا إنَّ "امتلاك شقة أمر غير وارد هنا". وثم يضيف: "أنا لا أستطيع على أية حال تحمّل تكاليف الزفاف أيضًا". يشعر قيس بالاحراج بسبب وضعه المتأزِّم ولا يريد لذلك أن يتم تصويره.
وقيس لا يمثِّل حالة فردية، بل يوجد مثله كثيرون في تونس: إذ إنَّ نحو 47 في المئة من التونسيين ينفقون دخلهم مع حلول منتصف الشهر، مثلما ذكرت مجلة "تونس نوميريك" في شهر نيسان/ أبريل 2013.
تراجع الطبقة الوسطى
تعاني الطبقة الوسطى في تونس بشكل متزايد من وضع اقتصادي متأزِّم. وطبقًا لمعلومات جمعية حماية المستهلك التونسية (ILEF) فقد انخفضت في العام الماضي 2012 القوة الشرائية لدى عائلات الطبقة الوسطى بنسبة 10.6 في المئة. وتعود أسباب ذلك إلى زيادة معدل التضخم الذي بلغت نسبته في شهر آذار/ مارس الماضي 6.5 في المئة وكذلك إلى زيادة نسبة البطالة.
وتبلغ حاليًا نسبة العاطلين عن العمل في تونس سبعة عشر في المئة من بين المواطنين القادرين على العمل. وكذلك لا يتوفَّر إلاَّ لثلاثة عشر في المئة من الأسر المحسوبة على الطبقة الوسطى مبلغ يزيد عن عشرة دولارات في اليوم الواحد.
كما أنَّ الأغلبية العظمى من أسر الطبقة الوسطى مضطرون إلى العيش بما يتراوح ما بين دولارين وأربعة دولارات في اليوم - وهذا يعني أنَّ ثلاثة وأربعين في المئة من مجموع سكَّان تونس ينتمون إلى الطبقة الوسطى الدنيا، أي ما يعرف باسم الطبقة العائمة.
ومنذ عام 2011 تزداد باستمرار نسبة الأسر التي تنتمي إلى هذه الطبقة الدنيا التي لا تفصلها عن مستوى ما دون خط الفقر سوى خطوة صغيرة فقط.
كانت الطبقة الوسطى بالذات تمنح تونس على مدى عقود من الزمن مقدارًا معينًا من الاستقرار الاقتصادي: وحتى بداية العام 2011 كانت نسبة المواطنين في هذه الدولة الواقعة في شمال إفريقيا الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى تبلغ تسعة وثمانين في المائة، وبناءً على ذلك فقد كانت تونس تحتل مكان الصدارة بين جميع الدول الإفريقية في هذا الصدد.
وكذلك منذ بداية الربيع العربي الذي أدَّى في شهر كانون الثاني/يناير 2011 إلى الإطاحة بالدكتاتور زين العابدين بن علي انخفضت نسبة الطبقة الوسطى إلى 69.5 في المئة. وهنا يرى الخبير الاقتصادي التونسي معز الجودي أنَّ نسبة الطبقة الوسطى في تونس من الممكن أن تنخفض بحلول نهاية هذا العام 2013 إلى ما دون مستوى الخمسين في المئة.
ومن الممكن أن تكون عواقب هذه التطوّرات وخيمة بالنسبة للاقتصاد التونسي الذي يعتمد كثيرًا على الاقتصاد المحلي والاستهلاك الخاص وذلك نظرًا إلى تراجع قطاع السياحة وارتفاع الدين العام.
وكذلك يخشى قيس من أن تتدهور حالته أكثر. ويزداد قلقه هذا بسبب عدم الاستقرار السياسي في البلاد، ويقول: "الحكومة تتَّبع معنا سياسة المماطلة. يقولون لنا أحيانًا إنَّه سوف يتم خفض الأسعار، وأحيانًا يقولون إنَّ المعونات سوف يتم إلغاؤها. وهذا مربك ومتعب لنا".
أوضاع مضطربة
وفي الحقيقة يعتبر الوضع في تونس مضطربًا. إذ اتَّفقت الحكومة التونسية في العشرين من نيسان/أبريل 2013 مع صندوق النقد الدولي (IMF) على برنامج تكيّف هيكلي تبلغ قيمته تقريبًا 1.4 مليار يورو. وطبقًا لمعلومات صحيفة "النواة" التونسية فقد وافقت تونس على إلغاء العديد من المعونات ورفع الدعم من أجل الحصول على هذا القرض من صندوق النقد الدولي.
يتم في تونس دعم المواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والحليب والسكر - وإلغاء الدعم عن هذه المواد الغذائية سوف يؤدِّي إلى زيادة الأزمة الاقتصادية لدى الطبقة الوسطى التي تعاني على أية حال من ضائقة مالية.
ولكن الحكومة التونسية أعلنت مؤخراً فقط عن توقيعها بشكل رسمي على هذا الاتِّفاق مع صندوق النقد الدولي عن تخفيضات كبيرة في الأسعار: وهكذا من المفترض أن يتم على سبيل المثال خفض سعر البطاطا بنحو أربعين في المئة وكذلك يفترض خفض أسعار اللحوم بنسبة تصل إلى تسعة في المئة.
وفي هذا الصدد يقول قيس وهو يهز رأسه: "أنا لا أعرف ما الذي ينبغي علينا تصديقه". وهو يعتقد مثل الكثير من المواطنين التونسيين أنَّ تخفيضات الأسعار المعلن عنها هي في الحقيقة مجرَّد محاولة يقوم بها حزب "النهضة" الحاكم من أجل استعادة تأييد الناخبين بوعود قصيرة الأجل.
إذ إنَّ هذا الحزب الإسلامي صار يفقد باستمرار تعاطف المواطنين وثقتهم منذ أن حصل على أغلبية المقاعد في البرلمان التونسي في شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر 2011.
من المقرَّر إجراء الانتخابات في شهر تشرين الأوَّل/ أكتوبر المقبل 2013 - ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل سيتمكَّن حزب "النهضة" في الواقع من استعادة الناخبين إلى جانبه من خلال تخفيضات الأسعار هذه التي تعدّ قصيرة المدى.
ولكن حتى لو تم في الواقع تطبيق التخفيضات في الأسعار على الرغم من الاتِّفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي فإنَّ هناك قطاعات من الاقتصاد سوف تعاني من هذه التخفيضات: إذ إنَّ منتجي هذه السلع التي سيتم خفض أسعارها سوف يعانون هم وموردوها من زيادة في التكاليف وهذا سوف يعرِّض فرص العمل من جديد للخطر. وهكذا سوف تستمر الدوامة في الدوران.
المستفيدون من الأزمة
وحاليًا تؤدِّي الأوضاع الاقتصادية المزرية إلى تفاقم الأزمة السياسية في تونس: إذ إنَّ السلفيين الذين يزداد نشاطهم بشكل متواصل في البلاد يحاولون الاستفادة من حالة تزايد الفقر لدى المواطنين وزيادة قلقهم.
ينشط السلفيون خاصة في الأحياء الفقيرة التي يحاولون فيها تقديم البديل للناس - وتشكِّل الأفكار التجارية التي يقدّمها السلفيون المتطرِّفون بديلاً للأوضاع المأساوية في سوق العمل، خاصة للشباب.
فتشاهد أمام المساجد في المدن الكبرى صفوف من البسطات والطاولات التي يتم فوقها عرض أنواع من سجادات الصلاة والعطور والملابس التقليدية من أجل البيع.
وفي حين أن سوق العمل غير الرسمي يشهد نموًا فإنَّ الحكومة والمعارضة منشغلتان في البحث عن سبل من أجل الخروج من الأزمة.
وفي هذه الأثناء قطع قيس الأمل في تحسّن الأوضاع، وعن ذلك يقول: "قدَّمت للتو طلبات للعمل في ألمانيا. وعندما أعمل هناك وأرسل المال إلى الوطن سيكون ذلك أفضل بالنسبة لي ولأسرتي".
ينظر قيس مفكرًا إلى الساحة المكتظة أمام مسجد الفتح حيث يعرض الباعة المتدينون بضائعهم للبيع، ثم يبتسم بمرارة ويضيف: "من الممكن هكذا على الأقل جلب بعض العملات الأجنبية إلى البلاد".
كاترينا بفانكُخ
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013