علاء الأسواني: لماذا تغيرت أخلاقنا..؟
١ مايو ٢٠١٨في عشرينيات القرن الماضي. كانت كلية الطب (القصر العيني) يديرها مجلس كلية مكون من رئيس انجليزي وأعضاء جميعهم من الأطباء الإنجليز باستثناء طبيبين مصريين شهيرين هما الدكتور نجيب محفوظ أستاذ أمراض النساء والدكتور على إبراهيم أستاذ الجراحة.. ذات يوم أعلن مجلس الكلية عن حاجته لتعيين أستاذ باثولوجي (علم الأمراض) وتقدم للوظيفة العديد من الأطباء واجتمع مجلس الكلية لفحص طلباتهم لكن رئيس المجلس بدأ الاجتماع قائلا:
- زملائي الأعزاء. أخبركم ان مستشار المعارف في الحكومة البريطانية قد أرسل مرشحا من معارفه ليشغل الوظيفة، وأنا أقترح قبول مرشح المستشار لأننا جميعا نثق في اختياره.
اعترض الدكتور نجيب محفوظ قائلا:
- يجب أن نفحص كل طلبات المتقدمين للوظيفة وفي النهاية سنختار الأصلح كما تقضي لائحة الكلية.
حاول رئيس المجلس إثناء د. محفوظ عن رأيه لكنه أصر فقام بطرح الموضوع للتصويت، فاذا بكل أعضاء المجلس يساندون محفوظ. تم فحص الطلبات جميعا وذهبت الوظيفة إلى طبيب غير الذي رشحه مستشار المعارف، ثم تكرر الأمر في وظيفة أستاذ البكتريولوجي (علم البكتريا). وكان اللورد اللنبي (المندوب السامي البريطاني آنذاك) قد اقترح طبيبا من معارفه للوظيفة لكن نجيب محفوظ فعل مثل المرة الأولى وسانده الأساتذة جميعا، مما اضطر رئيس المجلس إلى تطبيق اللائحة وكتابة اعتذار للورد اللنبي وذهبت الوظيفة إلى من يستحقها في نظر أعضاء المجلس.
هذه الواقعة التي ذكرها الدكتور نجيب محفوظ في مذكراته تجعلنا نتساءل: ما الذي يدفع طبيب مصري إلى تحدى مستشار المعارف البريطاني والمندوب السامي البريطاني وقد كان آنذاك حاكم مصر الفعلي..؟ ما الذي يدفع أطباء بريطانيين إلى مساندة طبيب مصري ضد مواطنيهم البريطانيين من أصحاب المناصب والنفوذ.؟ إن ما دفعهم إلى اتخاذ موقفهم حرصهم على تطبيق العدل. إنهم على اختلاف جنسياتهم وأديانهم لم تسمح ضمائرهم بأن يشاركوا في ظلم المرشحين للوظيفة. إن من يقرأ هذه الواقعة لابد أن يقارن بين سلوك أعضاء مجلس كلية الطب منذ مائة عام وسلوكهم الآن. كثيرون من أساتذة الطب الآن في مصر يعتبرون حقهم الطبيعي أن يعينوا أبناءهم في سلك التدريس في الجامعة بغض النظر عن كفاءتهم وهم لا يستشعرون أدنى حرج عندما يستولي أبناؤهم على وظائف كان غيرهم أحق بها منهم. ظاهرة توريث الأبناء لا تقتصر على أساتذة الطب لكنها للأسف تشمل أصحاب المناصب العليا في معظم المجالات.
لماذا كنا نتمسك بالعدالة وندافع عنها منذ مائة عام فأصبحنا نظلم الاخرين حتى نحصل على امتيازات لأبنائنا؟ لماذا تغيرت أخلاقنا نحن المصريين..؟ ليست الأخلاق مجرد شأن شخصي ولا تتحسن الأخلاق بواسطة ترديد المواعظ. الأخلاق ظاهرة اجتماعية لايمكن تفسيرها بعيدا عن النظام السياسي الذي يحكمنا. النظام هو مجلس إدارة الوطن الذي يستطيع أن يخرج من الشعب أفضل أو أسوأ ما فيه من أخلاق. منذ مائة عام كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني وكانت الحركة الوطنية تناضل من أجل جلاء المحتل واقامة الديمقراطية لكن الانسان المصري لم يكن قد تعرض للقمع الرهيب الذي مارسه عليه حكامه المصريون.
إن الاعتقال العشوائي والتعذيب بالكهرباء وتلفيق التهم والاختفاء القسري، كلها منجزات الحكم العسكري الذي سقطت مصر في قبضته منذ عام 1952 وحتى الآن. في ظل الاستبداد نشأت أجيال من المصريين لم يعاملهم أحد بانصاف ولم يشهدوا أي نوع من العدل، هؤلاء أدركوا مبكرا أن القانون لا يتم تطبيقه على الجميع في مصر، وإنما هو انتقائي يتم استعماله ضد أفراد ويستثنى منه آخرون.
عندما يكتشف الإنسان أنه لا توجد عدالة فإن أول ما يفعله هو أن ينتزع ما يريده بأي طريقة. إن الذين يسعون لتوريث أبنائهم في المناصب يعلمون جيدا أن أبناءهم لن يحصلوا على حقوقهم في أي مكان آخر لأنه لاتوجد أي قواعد للمنافسة العادلة. لماذا لا يحترم المصريون قواعد المرور في بلادهم ويحترمونها خارج مصر..؟ لأن قانون المرور لا يطبق على الجميع في مصر بل ان هناك فئات في المجتمع لن تدفع غرامات أبدا مهما خالفت قانون المرور .
إن الاستبداد يدمر منظومة العدالة في المجتمع فتصير الأسباب لا تؤدي بالضرورة إلى النتائج. تصبح مخالفة القانون لا تؤدي بالضرورة إلى العقاب و الاجتهاد لا يؤدي بالضرورة إلى الترقي والكفاءة لا تؤدي بالضرورة إلى تولى المناصب. بدلا من التنافس العادل الشريف فإن الاستبداد يعلم الناس مجموعة من المهارات المنحرفة التى يحصلون بها على ما يريدون. عندئذ تتحول البلطجة إلى شجاعة والنفاق إلى لباقة والغش في الامتحان إلى مساعدة كريمة والتجسس على الزملاء لصالح الأمن يتحول لعمل وطني.
في ظل تشوه المفاهيم وانحراف السلوك لا يمكن لبلد يحكمها ديكتاتور أن تتقدم أو تنهض أبدا. كل من يطالع تاريخنا الحديث سيرى أن المصريين والعرب دفعوا دائما ثمنا باهظا لقرارات الديكتاتور الخاطئة بدءا من هزيمة 1967 التي تسبب فيها عبد الناصر إلى قرار احتلال العراق للكويت الذي اتخذه صدام وأدى في النهاية إلى احتلال العراق وتدميره، وفي مصر قرر السيسي التنازل عن جزيرتين مصريتين للسعودية ثم وقع وثيقة وافق فيها على إقامة سد النهضة الاثيوبي مما سيؤدي إلى كارثة مائية في مصر.
إن محاولة تنمية أي مجتمع في ظل نظام استبدادى تشبه بناء قصر من الرمال، مهما اجتهدت في تشييده تكفي موجة واحدة من البحر لتزيله من الوجود.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.