في سبيل تعليم عالي متميز الجودة
٦ يناير ٢٠١٢التحديات التي تواجه الإصلاح والتطوير تتعلق بجملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي ورثت من النظام السابق، وبالتحديد منذ 40 عاما عندما تم إخضاع التعليم العالي والجامعات لسيطرة الدولة المطلقة، لتوجيه الشعب وفق أيديولوجيتها، وسحب سلطة القرار الأكاديمي من يد الجامعة. وبالرغم من إن التعليم العالي أصبح بمختلف درجاته واختصاصاته العامل الحاسم والأهم في عملية التنمية إلا أن الدولة لازالت لا تعير أهمية كبرى له، حيث لا تزيد درجة الإنفاق على هذا القطاع عن 3,4% من الميزانية العامة للحكومة.
بالإضافة إلى ضعف مستوى الإنفاق على الجامعات وعلى البحث العلمي والابتكار والتطوير تعتبر مستويات أعضاء هيئة التدريس العلمية والأكاديمية عوامل أساسية تتحكم في تحديد جودة التعليم. فلو نظرنا نظرة بسيطة على واقع حال مستويات أعضاء هيئات التدريس في الجامعات العراقية لوجدنا خلالا كبيرا في نسب المراتب العلمية فحملة شهادة الماجستير يمثلون ما يقارب من 75% من أعضاء الهيئات التدريسية للجامعات (إذا ما اعتبرنا إن كل مدرس ومدرس مساعد هم من حملة شهادة الماجستير)، هذا علما إن معظم هؤلاء أو لربما بكاملهم هم من خريجي الجامعات العراقية.
قد يكون من المنطقي مقارنة هذه النسبة بنسبة عدد أعضاء هيئة التدريس ممن لا يحملون شهادة الدكتوراه في الجامعات الراقية والتي لا تتعدى 5%، وبحيث تنحصر هذه الفئة في أقسام ومواضيع محدودة حيث لا تعتبر شهادة الدكتوراه ضرورية او مهمة مهنيا أو أكاديميا.
"زيادة الجامعات غير مجد دون إعداد أساتذة"
من هذا المنطلق يمكننا التساؤل عن صحة الدعوات التي تنادي بزيادة عدد طلبة الجامعات وعدد طلبة الدراسات العليا وبتأسيس جامعات جديدة، فهل من الممكن استيعاب أعداد إضافية من الطلاب في الوقت الذي تفتقر الجامعات إليه من أساتذة مؤهلين تأهيلا دوليا عاليا.
شهدت السنوات القليلة الماضية تطورات كثيرة في التعليم العالي في العراق فقد بدأت الجامعات بالعمل وفق صيغ لامركزية في إداراتها، ووجد مفهوم استقلالية الجامعة قبولا عند أطراف عديدة، كما بدأت الجامعات بالتعاون مع الجامعات الغربية، وشمل ذلك مجالات التعليم والبحث والإدارة، ونقل الخبرات العلمية والتربوية والاستفادة منها في تطوير قابليات الأساتذة والإداريين والطلبة بمختلف مستوياتهم، ووضعت وزارتي التعليم العالي في المركز والإقليم والجامعات العراقية نصب عينها تحسين الجودة واستخدام المؤشرات والمقاييس التي تقيس مستوى جودة الخدمات التعليمية، وبالتالي العمل على ردم الفجوة بين مستوى الجودة الموجود فعلياً وبين الجودة المطلوبة وفق المعايير العالمية، والسعي لتحقيق الاعتماد الأكاديمي ومن قبل منظمات عالمية معترف بها.
هذه الخطوات والإجراءات وغيرها تعتبر بداية حسنة لتحقيق الإصلاح المنشود لمنظومة التعليم العالي ولغرض النهوض بمستويات الجامعات لكي تتبوأ مراكز متقدمة في السلالم العالمية لتقييم أداء الجامعات. والإصلاح المنشود كما بينت دعائمه في مقالات سابقة يكمن في ترسيخ أسس المنافسة بين التدريسيين داخل الجامعة وبين الجامعات، وتحقيق مبدأ استقلالية الجامعة وضمان الحرية الأكاديمية والانفتاح، واعتماد أسلوب الإدارة اللامركزية والمرونة التنظيمية والهيكلية بحيث تكون ملائمة لقبول التغيير السريع والمستمر، وتطوير التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة، وتحقيق زيادة هائلة في التمويل وإيجاد مصادر أخرى للتمويل، وتنمية مستوى كفاءات ومؤهلات التدريسيين والباحثين، وتطوير المناهج وطرائق التدريس، وتأسيس نظام فاعل لتقيم الجودة، وتوفير الحوافز لكي تكون الجامعة مؤسسة لتكوين كوادر تلائم عصر اقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات، هذا بالإضافة الى التحول من التعليم الى التعلم، والتأكيد على نشاط الطالب ونتاجاته من خلال أعادة إنتاج معارف الآخرين وابتكار أخرى جديدة، وبناء المخرجات التعليمية على أساس "معرفة كيف" العملية في مقابل "معرفة لماذا" النظرية.
هل المنافسة في الحقل الأكاديمي شيء حسن؟
معظم هذه المعالم المعيارية للإصلاح تحدثنا عنها في مقالات سابقة إلا أن موضوع المنافسة بين التدريسيين داخل الجامعة وبين الجامعات لم يأخذ نصيبه من الدراسة. فهل المنافسة في الحقل الأكاديمي شيء حسن؟
وهل تساعد في تحسين مستوى التدريس والبحث العلمي؟ وهل يمكنها من تطوير التعليم الجامعي والجامعات؟
المنافسة، عموما، تشجع التفوق الأكاديمي. والأمثلة على المنافسة في الحقل الأكاديمي كثيرة منها المنافسة على اجتذاب أفضل الطلبة وأعضاء هيئة التدريس وتأمين كلفة المشاريع الكبيرة وتمويل البحوث وكسب الجوائز والتكريم. والمؤسسات الأكاديمية المتفوقة تعرف عادة بأنها مؤسسات ذات إنجازات متميزة. وتعلق هذه المؤسسات أهمية كبيرة على التنمية المهنية لأعضاء هيئة التدريس وتوفير الدعم وبناء البنية التحتية المناسبة لأنشطة هيئة التدريس والطلاب.
التزام عضو هيئة التدريس بأداء مهماته يعتمد على عوامل تكمن في شخصيته التي تحفزه وتدفعه لتحقيق المزيد من التقدم والتطور في أدائه. وتلعب القيم والمثل العليا وتشربها في حياته وثقافته دوراً مهما في تحديد درجة هذا الالتزام. القوة الدافعة التي تحكم هذه الديناميكية هي الرغبة في تحقيق أهدافه في بيئة تنافسية. والمؤسسات الأكاديمية العالمية الجيدة تعلق أهمية كبيرة على هذه الرغبة بحيث تلعب دوراً مهما في الاختيار والتعيين، وفي التعرف على درجة تحسن إداء أعضاء هيئة التدريس.
المنافسة موجودة حاليا في الجامعات العراقية ولو أنها محدودة وأبرزها مباهاة الجامعات بتفوقها في بعض السلالم العالمية لتقييم الأداء، وحصول أساتذتها على تكريم من مثل أحسن أستاذ جامعي وجوائز التكريم التي تمنحها الوزارة. وتظهر المواجهات التنافسية بشكل أخر في كليات العلوم السياسية والاجتماعية حيث تتضارب الأفكار ويتخاصم التدريسيين وما يضمن استمرارية هذا الخصام هي الحرية الأكاديمية التي تعتبر رئة تنفس الجامعة الحرة والمستقلة.
"المنافسة الأكاديمية تختلف عن القتال"
من الضروري توسيع رقعة المنافسة بين الجامعات لتشمل التخصيصات المالية. المنافسة لن تؤدي الى الخصومة والعداء على الرغم من أنها غالبا ما تثير الحسد والحقد بين المتنافسين، ولكن يجب أن نضع في الاعتبار أن المنافسة الاقتصادية والأكاديمية تختلف جوهريا عن المواجهة والقتال. نحن متحدون كأفراد مجتمع واحد في نشاط مشترك لإنتاج السلع والخدمات الاقتصادية في سبيل تحقيق الرفاهية والتطور. المنافسة الاقتصادية تهدف إلى التميز في الخدمة، وفي المنافسة يتم اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب او الوظيفة المناسبة. المستهلكون هم القضاة، والمستهلكون في السوق التعليمية هم الطلاب وأسرهم. لذا فالجامعة التي تقدم أفضل الخدمات التعليمية والتي تتفوق عالميا، وخريجوها يجدون أفضل فرص العمل، هي التي تتصدر سوق التعليم العالي.
إلا ان المعايير الاقتصادية لا تنطبق كليا على الأوضاع في التعليم العالي والجامعات فهي ليست أوضاعا تنافسية بالمعنى السوقي والتجاري بل تتحكم بها عدد من الشروط منها: الطلب على التعليم العالي في المنطقة الجغرافية للجامعة وعدد المقاعد الدراسية، وتوفر الأساتذة و الأكاديميين، وأجور الدراسة، وحاجة السوق والمجتمع. وبالرغم من ان الطلب على التعليم العالي في ازدياد مستمر إلا أن المنافسة بين الجامعات بالنسبة لأعداد الطلبة ونوعياتهم لا يمكن ان تحصل بدون أن يرتبط نظام تمويل الجامعات بعدد الطلبة وجودة مخارج التعليم. كما أن اعتماد درجة ما من الأجور ولو كانت بسيطة جدا في الجامعات والكليات التي عليها رغبة كبيرة ستساعد في زيادة مسؤولية الجامعة أو الكلية أمام الطلبة وأسرهم، وستكون دافعا للتميز. ان تقاضي أجور بسيطة لبعض الدراسات ضروري في الوقت الذي وصل متوسط دخل الفرد العراقي اكثر من 3500 دولار سنويا مقارنة ب 86 دولار في عام 2003، وخصوصا اذا اعتمد على أساس دخل العائلة ومستواها الاقتصادي فانه لن يشكل تميزاً أمام أصحاب الدخل المحدود.
ضرورة ربط الجامعة بحاجة السوق والمجتمع
كما ان ربط الجامعة بحاجة السوق والمجتمع سيدفع باتجاه توسيع الدراسات التكنولوجية والصحية على حساب الدراسات الادبية والاجتماعية، وسيقلل من تدريس اختصاصات لم تعد الحاجة لها قائمة، ومن الازدواجية في الاقسام والتخصصات، وهي مسألة في غاية الأهمية للنزف الكبير الذي تحدثه في الموارد، فعلى سبيل المثال توجد في إحدى الجامعات سبعة أقسام للغة العربية. ويعتبر هذا الربط بين الجامعة وحاجة السوق مسارا لابد منه، فليس من المعقول ان يلتحق 70% من الطلبة بالدراسات الجامعية في التخصصات الإنسانية والاقتصادية والإدارية في الوقت الذي لا تزيد نسبة خريجي الفرع الادبي في الثانويات عن 40%. لابد ان تعطي جامعاتنا أهمية رئيسية لتدريب المهارات في المواضيع التي يحتاجها السوق والمجتمع وان توقف نزف العلوم الإنسانية من تاريخ وجغرافية وأدب وفلسفة بدون تخطيط او اعتبار لحاجة المجتمع، فالأساس في عدد الطلبة لا يكمن في توفر عدد هائل من الأساتذة وتوفر البنايات ورخص التكلفة، فهذا المغرب مثال على تضخم عدد الخريجين في الدراسات الإنسانية والأساسية، حيث الآلاف منهم لا يجدون عملا إلا التظاهر يوميا أمام البرلمان.
ومن هنا يتضح لنا ان الطريق الصحيح أمام الجامعات هو أن تقوم برسم سياسات واضحة وبرامج محددة تتعلق بتطوير وتنمية أعضاء هيئة التدريس مهنيا.
د محمد الربيعي
مراجعة ملهم الملائكة