فيلم ''أغاني القاهرة'': أنغام الثورة وألحان ميدان التحرير
٢٩ يوليو ٢٠١٢يسافر ألكسندر بريف منذ عشرين عامًا بشكلٍ مكثَّفٍ إلى مصر، حيث قصد مرارًا سيناء باعتباره مدرِّب غطسٍ ومصوِّرًا تحت الماء. وقد تعرّف قبل عدة سنواتٍ عن طريق أصدقاءٍ على الساحة الثقافية في القاهرة فنالت إعجابه الشديد وقال بهذا الصدد: "نالت علل المدينة وتنوعها إعجابي فورًا، ولمستُ بسرعةٍ أنَّ الكثير هناك يمر بمرحلة تغييرٍ جذري، وبالأخص في مجال الفرق الموسيقية المستقلة التي تقدم أعمالها خارج المسارح العامة والتي لم تكن تحظى بطبيعة الحال بدعم النظام. هذا الغليان تحت الأرض كان بالنسبة لي حافزًا لصنع فيلم". وقد شكّل أيضًا فيلم فاتح أكين "عبور الجسر" أحد مصادر إلهامي لهذا العمل".
يمكننا أنْ نفترض في ظل ظروفٍ عاديةٍ أنَّ من شأن فيلم "أغاني القاهرة" أنْ يغدو بالفعل نظيرًا مصريًا لصورة اسطنبول الموسيقية التي صنعها فاتح أكين. لكنْ بعد أنْ قام ألكسندر بريف ببحوثٍ وتحضيراتٍ مطوّلةٍ وأثناء انتظاره في كانون الثاني / يناير 2011 قدوم يوهانس روسكم ووكالته الإعلامية موفيمينتوس المسؤولة عن توفير المعدات الفنية، بدأت الاحتجاجات الضخمة تتشكَّل في ميدان التحرير، ولم يعد باستطاعة شريكه اللحاق به، إذ أُلغيت الرحلات الجوية وقتئذ. أراد بريف أنْ يحوِّل المحنة إلى فعلٍ إيجابي، فأخذ يسجل بذاته الأحداث الجارية في البداية. ويقول متذكرًا تلك الفترة: "في أول الأمر صار الفيلم في أعيننا صغيرًا وغير ذي أهمية. وأردت أنْ أوثِّق بشكلٍ مرهفٍ ما كان يجري في تلك الفترة. ولم أقف بطبيعة الحال في وسط ميدان التحرير، لأنني لم أشأ أنْ أزيد من تغذية الشائعات القائلة بأنَّ الأوروبيين يوجِّهون هذه الثورة".
فن في صخب السياسة
بيد أنه بعد مرور الأيام الثمانية عشر المشحونة وسقوط الرئيس مبارك، عدنا لتناول الفكرة الأصلية مرّة أخرى، طبعًا في ظل مؤشرات سياسية متغيّرة هذه المرة. وغدت لقطات الفرق الموسيقية عند ذاك محاطة ببرقيات أيام الثورة المحمومة والمصنوعة بأسلوب الكليب. وازدادت جماليات الفيلم مدفوعة بالنبض السريع للتنقلات بالتاكسي في شوارع القاهرة ومرفقةً بظهور لافتات مرورٍ مهتزةٍ، وهي تربط بين مقاطع المقابلات المتّسمة براهنية التغيير. كما تشبه الظروف التي نشأ فيها الفيلم حمَّامًا تتقلب فيه حرارة الماء باستمرار بين البرودة والسخونة. ويذكر يوهانس روسكم الذي لحق بعد ذلك بشريكه التالي: "عيَّنت وزارة الصحافة لنا في البداية شخصًا يرافقنا، ما أظهر طبيعة العقلية القديمة. لكن بعد فترةٍ قيل لنا ببساطة إنَّ بإمكانكم أن تصوّروا ما تشاؤون، نحن الآن في مصر حرّة ".
من خلال مرافقتهما الفرق الموسيقية حتى كانون الأول / ديسمبر 2011 في ظل هذه الظروف قدّم بريف وروسكم في فيلم "أغاني القاهرة" لقطةً سريعةً فريدةً وإنْ كانت غير مقصودةٍ لمشهدٍ موسيقيٍ يعيش حالة من الحماسة الشديدة والتهويم. يتجلّى هذا على وجه الخصوص في المقابلات التي أجرياها مع فنانين من فرق الأندر جراوند، مثل ثلاثي بيكيا الذي يمزج في موسيقاه الجاز بالروك الحديث والأصوات التجريبية، وهي فرقة تسعى لبداية جديدة بعيدًا عن صور الأهرامات النمطية وتؤكد على أنه لا بدَّ الآن من تجديد البحث عن كلِّ المرجعيات. كما يرى النجوم المستقلون في فرقة وسط البلد في الثورة فرصةً لتعاونٍ جديدٍ بين كل الفرق الموسيقية في مصر. أما فرقة ماسكارا النسائية التي تقدم موسيقى كلاسيك ميتال فهي أقلّ تفاؤلًا. ولم تسمح عازفات الفرقة بعرض صورهن في فيلم " ميكروفون" (2010) للمخرج أحمد عبد الله، إلا مع استخدام خطوط تخفي عيونهن. ومع أن دينا الوديدي ونانسي منير وزميلاتهما لم يعدن غير معروفات، إلا أنهن يخشين من احتمال فقدان حرياتهن المكتسبة مؤخرًا في حال تولي الأخوان المسلمين الحكم.
المحضرمون
ولا يخلو "المخضرمون" أيضًا من القلق من المستقبل، حيث يشبِّه عازف موسيقى الجاز فتحي سلامة الأوضاع السياسية الجديدة بالسير على حبلٍ مشدودٍ بين الحرية والفوضى والحرب الأهلية، ويعرب عن اعتقاده بأنَّ الانتخابات الرئاسية تترافق مع وجود صفقةٍ بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين. ويرى أنَّ نجاح الإطاحة بالحكم على المدى البعيد لا يمكن أن يأتي أكُله إلا بحدوث ثورةٍ على صعيد التعليم أيضًا. ويعتمد أحمد المغربي المدير الفني لمجموعة ناس مكان على التواصل مع الشعب ويريد الحفاظ على موسيقاه التقليدية، لكنه يود في الوقت ذاته مواصلة تطوير هذه الموسيقى من خلال التعاون على المستوى العالمي. كذلك يسعى "مشروع كورال" إلى التواصل مع الشارع، حيث يستطيع أيُّ شخصٍ من السكان تقديم شكواه بشكلٍ خلاقٍ في هذا المشروع. أما تسجيلات حفلات الكورال التي لها وقعٌ عفويٌ جدًا فتعتبر من المقاطع الأكثر روعةً في فيلم "أغاني القاهرة". ونهايةً ثمة دلالة كبيرة أيضًا لمشهد مقابلة محمد منير، وهنا كان فريق تصوير بريف وروسكم أول من صوره بعد حركة الاحتجاج. النجم الذي قدَّم من قبل عروضًا أمام جمعٍ من ضبّاط مبارك أيضًا، وضع دبلوماسيته جانبًا وأبدى ثقته بفريق الفيلم، وقال إنه كان من خلال أغنيته "إزاي" من روّاد الثورة.
يرى ألكسندر بريف أنَّ "الموسيقيين يتأرجحون بين النشوة والاكتئاب. فلا أحد يعرف حتى الآن كيف ستتطوّر الأمور". ويضيف يوهانس روسكم "لكنهم أطاحوا على الأقل بمبارك، الأمر الذي منحهم ثقةً جديدةً بالنفس". وبحسب التقدير الشخصي لصانعي الفيلم لا تمكن إعادة عجلة الأمور تمامًا إلى الوراء ويقولان بهذا الصدد: "سوف يمتلئ ميدان التحرير ثانيةً إنْ بالغت السلطة الجديدة في اتخاذ اجراءات مكبِّلة". يريد بريف وروسكم المتابعة والتواصل مع العازفين والمغنين، وهما يبحثان عن داعمين لمشروعهم المموَّل حتى الآن ذاتيًا. وقد لاقى فيلمهما صدىً واسعًا في القاهرة، وسوف يتبع عرض الفيلم في مهرجانات الإسماعيلية وأوبِراودورف. ويحلم معدا الفيلم في يومٍ ما بإنجاز موسيقى تصويرية وحفلة موسيقية في الهواء الطلق في ألمانيا، لكي تصل أنغام القاهرة إلى أوساطٍ عالميةٍ أيضًا.
شتيفان فرانتسن
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام الغدم
حقوق النشر: قنطرة 2012