لغة جديدة من رحم الطبيعة في صحراء النقب
في كشف علمي مثير استطاع العلماء اللغويون العثور على لغة طبيعية نشأت حديثاً في قرية نائية للبدو على أطراف صحراء النقب تدعى قرية السيد. وهي لغة إشارة متطورة تشكلت بشكل طبيعي عبر ثلاث أجيال، تحتوي على بنية نحوية متكاملة وقدرة على التعبير عن أفكار مجردة. والمثير أنها تختلف عن لغات الإشارة المتداولة في القرى القريبة كما تختلف في تراكيبها عن اللغات المنطوقة في الجوار مما يعني أنها نشأت بشكل طبيعي تماماً لكي تلبي حاجات أبناء القرية في التواصل وتتلاءم مع قدراتهم الخاصة.
فرصة نادرة
وقد جذب الاكتشاف العديد من علماء اللغة حول العالم، فهي إحدى الفرص النادرة للتعرف على لغة طبيعية في مراحلها الأولى. فلقد كانت الطريقة الوحيدة المتاحة لعلماء اللغة حتى الآن هي دراسة الأطوار الأخيرة لنموها، ثم الانطلاق منها لفهم كيفية نشأة هذه اللغة والعوامل التي لعبت دوراً في تكوينها. وذلك لحداثة عمر علم اللغة مقارنةً بعمر اللغات البشرية الحية. ويقدر المتخصصون عدد اللغات في العالم بـ 6000 لغة، يتهدد كثير منها خطر الانقراض. ويحدث أحياناً أن تتشكل لغات جديدة معظمها صناعي مثل لغة الاسبرانتو، أو اللغة الاندونيسية المخلقة من الماليزية وبعض رموز الجزر المحلية وقليل من الهولندية، أو لغة الكريول في أمريكا اللاتينية. أما لغة قرية السيد المكتشفة حديثاً فهي لغة طبيعية نشأت عفوياً دون عمد مسبق.
وعن هذا الاكتشاف نشرت الدورية العلمية الأمريكية PNAS في عددها الأخير دراسة ميدانية في القرية قام بها باحثون من جامعة كاليفورنيا الأمريكية وجامعة حيفا الواقعة حالياً في إسرائيل، وأعطى العلماء لغة الإشارة الجديدة اختصاراً علمياً هو ABSL وهي الحروف الأولى من Al-Sayyid Bedouin Sign Language أي لغة إشارة (قرية) السيد البدوية. وتوصل الفريق إلى أن لغة قرية السيد لا تمت بصلة إلى لغة الإشارة المعروفة في إسرائيل أو تلك المعروفة في الأردن، كما أن بنيتها النحوية تختلف عن البنية النحوية العربية التي يتحدثها سكان المنطقة. فالبنية النحوية التي تسير عليها لغة قرية السيد هي فاعل-مفعول-فعل، بينما تسير العربية، مثلها مثل العبرية، على نحو فاعل-فعل-مفعول.
الحاجة والاختراع
ويرجع السبب في ظهور لغة إشارة في قرية السيد إلى انحدار كل ساكنيها من جد واحد أقام في القرية قبل 200 عام، وأنجب خمسة أبناء منهم اثنين مصابين بالصمم، لذا فهي صفة وراثية منتحية قد تختفي أجيالاً طويلة ثم تعود وتظهر. وقد عاد الصمم مرةً أخرى في الجيل الخامس من القرية، فوصل عدد الأفراد المصابين به إلى 150 من بين 3500 هم العدد الكلي لسكان القرية. وبدءاً من هذا الجيل ظهرت الحاجة إلى وسيلة تواصل بين أفراد القرية، فتكونت لغة الإشارة خلال 70 عاماً وتطورت مع الجيلين التاليين. واكتشف العلماء أن التزاوج في القرية يتم دائماً بين أفراد مصابين بالصمم وآخرين عاديين، لذلك لم يتركز الأفراد المصابين بالصمم في بطن واحدة ولكن تناثروا في الفروع المختلفة لشجرة القرية. ولم تقتصر لغة الإشارة على الصم فحسب، بل تعدتها إلى الأفراد غير المصابين بالصمم، فهم على احتكاك يومي بأقاربهم الصم، مما جعل لغة الإشارة لغة لأهل القرية عامة.
ومما يثير الانتباه أن يكون الجيل الثالث، الذي لا يزال أفراده في عمر الصبا، من أسرع الأجيال تعلماً وتطبيقاً للغة. فمثلاً الحركة الدالة على كلمة رجل هي حركة سريعة على الوجه تعبر عن اللحية، ولم يجد أفراد الجيل الثالث مشكلةً في فهم معنى الإشارة برغم ندرة وجود رجال ملتحين في القرية الآن.
طبيعة العقل البشري
النتيجة الأكثر أهمية في أبحاث الفريق هي الكشف عن وجود بنية نحوية متحققة في لغة قرية السيد، مما يعني أن العلاقات المنطقية بين أجزاء الجملة يتم إرساءها في مرحلة مبكرة من اللغة، وليس في مرحلة متأخرة كما كان يظن. فبدون الوصول إلى ترتيب ينظم علاقة الفعل بفاعله ومفعوله تبقى اللغة قاصرة وغير واضحة، فجملة مثل "أمر زيد عمرو" بدون علامات إعراب لا تقول لنا من منهما أمر الثاني. وما أن يستقر الترتيب الذي يضبط الفعل ومعموليه، حتى يصبح الطريق ممهداً لمراحل متطورة من اللغة يمكن فيها الفريق بين معمولي الفعل بعلامة إعراب أو غيرها من العلامات الدالة. وبهذا تكون لغة قرية السيد الإشارية دليلاً عملياً على نزوع العقل البشري إلى الخروج من الغموض والالتباس عن طريق استخدام قواعد نحوية تنظم التواصل اللغوي وتضبطه.