لغز سموم البولونيوم ووفاة عرفات
٧ ديسمبر ٢٠١٣استبعد أطباء شرعيون فرنسيون في الثالث من شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري اغتيال الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بمادة البولونيوم المشع. وبهذا الموقف أكد الفرنسيون ما ذهبت إليه التحاليل المختبرية الروسية. في حين، لم يستبعد المختصون السويسريون ذلك قطعياً. وربما لن يتفق المختصون في هذا الشأن على رأي واحد بسبب صعوبة إثبات ذلك، حيث يتلاشى سم البولونيوم بعد استخدامه بفترة زمنية قصيرة نسبياً.
على عكس حالة عرفات، فقد تم إثبات تسميّم العميل السابق لجهاز الاستخبارات الروسية ألكسندر ليتفينينكو في عام 2006. لم تطول فترة مرضه بعد تعرضه للتسميم بالبولونيوم، فلم يمضي سوى ثلاثة و عشرين يوماً على إدخاله المستشفى ومفارقته الحياة.
ويبدو أن إثبات حصول التسمم بالبولونيوم يرتبط أولا وقبل كل شيء بالظروف السياسية. فليتفينينكو، المعارض للرئيس الروسي بوتين والمبعد عن روسيا، كان قد كشف النقاب عن تورط الكرملين في نشاطات إجرامية غير قانونية. و بناءً على ذلك شك المحققون بحدوث عملية التسمم و قاموا بالبحث عن عنصر البولونيوم تحديداً.
في حين أن التحقيق بتسميّم عرفات، المتوفي عام 2004، بدأ بعد بث الجزيرة لتحقيق صحفي استقصائي عن الموضوع في تموز/يوليو 2012. استند تحقيق الجزيرة الاستقصائي على تقرير لمعهد الطب الشرعي التابع لجامعة لوزان في سويسرا، حيث أجرى الخبراء السويسريون الفحص على عينات من آثر لدم و بول وجدت على بعض المقتنيات الشخصية لعرفات، ووجدوا معدلات عالية من البولونيوم. مما حدا بالسلطة الوطنية الفلسطينية لفتح تحقيقاَ بالقضية، قام بموجبه خبراء فرنسيون وسويسريون وروس بأخذ عينات من جثة عرفات بعد فتح قبره في السابع و العشرين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر في عام 2012.
في تشرين أول/ أكتوبر الماضي أكد رئيس هيئة الطب الشرعي الاتحادية الروسية، فلاديمير أويبا، أن الخبراء الروس لم يعثروا على أي أثر لهذه المادة. في حين عارضه بذلك الخبراء السويسريون، الذين أكدوا وجود كميات مرتفعة من البولونيوم. أما الفرنسيون، بدورهم، فيعتقدون أن كميات البولونيوم المرتفعة مصدرها النشاط الإشعاعي الطبيعي في تربة قبر الزعيم الراحل.
النتيجة القاطعة فقط بعد الوفاة بوقت قصير
تعكس النتائج المتضاربة للفحوص المختبرية المعضلة التي تواجه العلم بإثبات وجود العنصر الإشعاعي المتقلب، فالبولونيوم له عدة أشكال. و يُعتقد أن البولونيوم210 ،الذي هو أكثر أشكاله سُمّية، هي المادة التي استخدمت في تسميّم عرفات. ما يصعّب الأمور أكثر هو تلاشي هذه المادة نسبيا ونقص إشعاعها إلى النصف بعد 138 يوم من استخدامها. وإذا أخذنا وفاة عرفات، التي مرّ عليها أكثر من 8 سنوات، ندرك مدى صعوبة الأمر. أضف إلى ذلك، أن البولونيوم قد ينشأ كنتيجة لعملية تفكك جزيئات مواد مشعة أخرى الموجودة في الطبيعة. فبعض الصخور المشعة في المناجم و المغارات أو الكهوف الجبلية قد تنتج البولونيوم. وعند نقطة زمنية معينة خلال عملية التفكك يكون تركيز البولونيوم الناتج عن التفكك مساوياً لتركيز السُم، الذي يمكن أن يكون قد اسُتخدم في الاغتيال.
عنصر نادر، ولكن آمن لدرجة إمكانية وضعه بحقيبة يد
عملية تلاشي البولونيوم تجعل منه سُماً مثالياً لجريمة متكاملة. ولكنه ليس في متناول يد كل مجرم، إذ لا يُنتج إلا في نطاق صناعي. إذ ينبغي معالجة عدة مئات من الكيلوغرامات من الصخور التي تحوي اليورانيوم المشع للحصول على جرعة قاتلة تزن 100 نانوغرام(10000000 من الغرام) من البولونيوم. هذه العملية ذات تكلفة مادية مرتفعة. في المفاعلات النووية، يمكن الحصول على البولونيوم بقذف عنصر البزموت القليل الإشعاع بالنيترونات. مما يعني أن الدول النووية فقط يمكن أن تحصل على هذه المادة. و حتى في هذه الدول فإن المفاعلات النووية مراقبة بشدة بحيث لا يمكن للعامل أن ينتجه خلسة أو أن يهرّبه إلى خارج المفاعل.
على الرغم من أن إنتاج البولونيوم والتعامل معه تنطويان على مخاطر كثيرة، ولكن يمكن للمرء ومن خلال التعامل الحذر المتأني مع المادة تجنب هذه المخاطر. فالبولونيوم ينتج أشعة ألفا بشكل كثيف، و لكن ورق كتابة يمكن أن تقي من هذا الإشعاع و تمنعه من اختراق الجلد.
فعال ضد السرطان، و مدمر للخلايا الجذعية السليمة
يكون البولونيوم بأشد حالته خطورةً عندما يدخل إلى الجسم عن الطريق الفم أو الدم على سبيل المثال. عندها تقوم أجسام ألفا، التي يطلقها البولونيوم، بتدمير الأنسجة الحيوية. عادةً ما تكون الخلايا الجذعية، التي تنقسم وتلد خلايا جذعية جديدة و تشكل أيضاً خلايا أخرى تمكن الجسم من تجديد نفسه، أكثر تأثراً بهذه الأشعة. من جهة أخرى، فإن أشعة ألفا يمكن أن تحول دون تكاثر الخلايا الجذعية، و هذا ما يستخدمه الأطباء لمكافحة انتشار الخلايا الجذعية السرطانية. في هذه الحالة لا يُستخدم البولونيوم.
في حال تم أخذ البولونيوم عن طريق الغذاء فإنه سيؤدي إلى تدمير الأغشية المخاطية المعوية و المعدية. مما سيؤدي إلى التقيؤ، وفقدان الشهية والغثيان. أما في حال أخذه عن طريق الدم، سيُفضي ذلك إلى تدمير الخلايا الدموية البيضاء وإلى فقر الدم. سيضعف الجهاز المناعي نتيجة لذلك. مما يؤدي أيضاً لدوخة و ألم في الرأس و تعطل الجهاز العصبي. في نهاية المطاف تلقي الضحية حتفها نتيجة الأمراض المعدية وفشل أعضاء الجسم في القيام بوظائفها الحيوية.